فى بلدان المناطق الحارة الجافة التى تعانى دوما من ندرة المياه يتطلب الأمر الحكمة والعلم للاستخدام الأمثل للمياه، الذى يحقق أعلى عائد اقتصادى. وعندما تصل الفجوة المائية فى مصر إلى 42 مليار متر مكعب فى السنة، تدفعنا إلى إعادة أستخدام نحو 20 مليار م3، من مياه الصرف فإن الأمر يعنى أن الميه ثروة ثمينة.
فهل من الأفضل استخدام المياه الجوفية، وأغلبها غير متجدد لسد الفجوة المائية العميقة فى بلدنا أم لاستخدامها اقتصاديا فى مجالات النمو المختلفة من صناعة وزراعة واستثمار عقارى وتسكين للأجيال الجديدة؟!
فإذا ما كان الأمر يبدو كأن الشعب تأقلم على الحياة مع الشح المائى، رغم الزيادة السكانية المتتالية والقادمة، فإن الأمر يتجه إلى استخدام هذه المياه فى المجالات الاقتصادية. وهنا نسأل أنفسنا: فى أى مجالات التنمية الاقتصادية تكون أولوية استخدامات هذه المياه الثمينة والنادرة خاصة أن بعضها يصل عمقها إلى 1200 متر، وبالتالى ينبغى أن توجه إلى قطاعات يكون العائد فيها من المياه عدة أضعاف تكلفة استخراج هذه المياه.
فعلى المستوى الدولى يشير تقرير التنمية للبنك الدولى 2014 إلى أن عدد العاملين فى قطاع الزراعة عالميا يبلغ 29% مقابل 24% للقطاع الصناعى، وبالتالى فالفارق ليس بالكبير، وتشير تقارير أخرى إلى أن البلدان المتقدمة يعمل فيها من 2 – 6% فقط فى قطاع الزراعة، وينتجون ما يكفى لإطعام شعوبهم ويحققون فائضا للتصدير، بينما يعمل فى الدول الفقيرة والنامية ما بين 33 و66% فى قطاع الزراعة، ولا ينتجون ما يكفى شعوبهم، ويعتمدون على استيراد الغذاء من الخارج! كما أن الإنتاجية الزراعية من وحدة المساحة فى الدول الفقيرة نصف مثيلاتها فى الدول المتقدمة.
ويعود السبب فى ذلك إلى الاعتماد على الزراعة المتطورة، وليس على العمالة اليدوية والزراعة البدائية، حيث يصل إنتاجية العامل الزراعى فى مصر إلى 499 دولارا فقط فى السنة بينما يصل إنتاج مثيله فى الزراعة الحديثة والآلية فى هولندا وأمريكا إلى 23 ألف دولار فى السنة.
الأمر الآخر أن دخل العامل فى القطاع الصناعى يتراوح فى مصر ما بين مرتين وستة أضعاف دخل مثيله فى القطاع الزراعى، وهذا له أهميته فى محاربة الفقر وتخليق الثروة، ولكن الأهم هو العائد الاقتصادى من المياه، حيث يشير تقرير البنك المركزى المصرى لعام 2017 إلى أن القطاع الصناعى فى مصر يستهلك ما بين 2.4 و4 مليارات م3 فقط فى السنة، ويساهم فى الناتج المحلى بنسبة 17.1%، بينما يستهلك القطاع الزراعى ما بين 59 و62 مليارا م3 من المياه ويساهم فى الناتج القومى بنسبة 11.9% فقط، وبالتالى يكون عائد المياه فى القطاع الصناعى نحو عشرة إلى 30 ضعفا من القطاع الزراعى.
ومع وجود مواد خام وموارد طبيعية عديدة فى مصر مثل جبال الحجر الجيرى اللازم لصناعة الأسمنت، وجبال الطفلة اللازمة لصناعة السيراميك وخامات الفوسفات ووفرة الكهرباء اللازمة لإنتاج مختلف الأسمدة، ورمال تصنيع العدسات للطاقة الشمسية، ومعها القليل من الحديد والألومنيوم لصناعات الصلب والألومنيوم، وكذلك خبرات تراكمية فى صناعات النسيج والغزول بالإضافة إلى موارد الاستزراع السمكى فى بحارنا وبحيراتنا، فالأمر يتطلب التفكير بعمق فى مستقبل استخدامات المياه فى مصر صناعيا وزراعيا وتنمويا.
وعلى الرغم من كل ما سبق، فإذا كان القرار هو استخدام المياه المكتشفة فى مكانها فى الزراعة، فإن الأمر سيتطلب التفكير العميق فى أين نزرع وماذا نزرع والغرض من الزراعة والاستفادة من دروس التاريخ وحديث العلم. وأول ما نلاحظه فى هذا الأمر هو أن جميع مشروعات استصلاح الأراضى الناجحة فى مصر تقع فى شمال البلاد حيث المناخ أكثر اعتدالا وأعلى رطوبة، وممطر فى الشتاء بالإضافة إلى قرب الشمال من الموانئ المصرية للتصدير وقربه أيضا من المدن والمحافظات كثيفة السكان واللازمة لتسويق الإنتاج الزراعى، بينما لا يوجد مشروع ناجح واحد لاستصلاح الأراضى فى جنوب مصر الحار الجاف وقليل السكان والفقير ومحدود الإمكانيات المالية الشرائية اللازمة لتسويق وبيع المنتج الزراعى. الأمر الثانى فى بلد محدود المياه هو أن استهلاك الزراعات للمياه فى شمال مصر يقل كثيرا عن مثيلاتها فى الجنوب، وربما يصل إلى الضعف كما هو الحال فى مشروع توشكى الذى رصدت له وزارة الرى خمسة مليارات م3 من المياه لمساحة 540 ألف فدان بمعدل عشرة آلاف متر مكعب للفدان بينما يصل الاستهلاك ما بين أربعة وخمسة آلاف م3 فقط فى الشمال.
بل إن الدراسات أوضحت وجود فروق حتى بين الجنوب والجنوب أو ما بين مصر الوسطى ومصر العليا حيث يستهلك فدان قصب السكر فى المنيا أقل من عشرة آلاف متر مكعب بينما يستهلك مثيله فى قنا وأسوان 12.750 م3، وفدان الفاكهة فى الدلتا يستهلك 5500 م3 مقابل 7500 لمثيله فى الصعيد، ويستهلك فدان الذرة 2400 م3 فى الدلتا مقابل 4000 فى الصعيد، وصولا إلى القمح الذى ستهلك ألفى متر مكعب فى الدلتا للفدان مقابل 3100 لمثيلة فى جنوب مصر، وفدان الخضروات الصيفية يستهلك ألفى متر مكعب فى الدلتا، مقابل 3300 متر فى جنوب مصر! ماذا يعنى هذا لبلد محدود الموارد المائية ويعانى من الشح المائى؟! يعنى أن مشروعات التوسع الزراعى ينبغى أن تكون لها الأولوية شمالا فقط بينما مشروعات التوسع الصناعى يكون لها الأولوية فى محافظات الصعيد لمحاربة الفقر وتوفير فرص عمل لمحافظات طاردة لأبنائها شمالا.
يتبقى أن نعلم ماذا نزرع فى أراضى الاستصلاح تحت ظروف نقص المياه وبأى هدف نزرع (أمن غذائى أم تصديرى).. وهل الأمر يشمل تطوير إنتاجية الأراضى القديمة الضعيف لنصل به إلى المستويات العالمية فنكون قد ضاعفنا الإنتاج دون استهلاك لمياه جديدة؟!
هذا ماسنناقشه فى مقال قادم.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع