لم يتوقف الكاتب والمحلل السياسى اللبنانى حازم صاغية عن إثارة للجدل منذ أن ظهر كتابه الأول «الهوى دون أهله» فى 1992 عن السيدة أم كلثوم وحتى ظهور أحدث مؤلفاته هذا الشهر بعنوان: «حدث ذات مرة فى لبنان» وقد تولت دار الجديد إصدار عنوانه الأحدث، وهى أيضا ما تولت نشر كتابه الأول.
جمع كتاب صاغية مقالاته وتعليقاته التى ينشرها بانتظام فى صحيفة «الشرق الأوسط» بعد أن ذهبت صحيفة «الحياة» إلى غير رجعة.
وميزة صاغية أنه لا يستسلم لفكرة ولا يسلم عقله ليقين، فهو دائم القلق ولسان حاله هو قول المتنبى «على قلق كأن الريح تحتى».
أحب كتاباته منذ أن قرأتها قبل ربع قرن، وعادة ما أبدا بها يومى، لأنها مليئة بكل أسباب الاستفزاز العقلى وباللمحات اللامعة، وهدفها واضح فى اضاءة العقل والتنبيه لمخاطر الاستبداد، ينظر صاحبها فى كل ما هو مهمل ويكسبه بهذا النظر حياة جديدة.
لا ترضى كتابات صاغية عتاة القوميين العرب وبعض اليساريين، إلا أن ثمة إجماع على براعته وخصوصية أسلوبه مهما بلغت درجة الخلاف معه فى الكتابات التى تصب نار الغضب على تجارب الحكم فى ظل أنظمة التحرر الوطنى وما يسميه «النشأة الملتوية للوطنيات العربية».
وفى الكتاب الجديد ذهاب أكثر باتجاه النقد الثقافى وميل ناحية تأمل مسارات الحياة اليومية وفى القلب منها الكيفية التى يتشكل بها الخطاب السياسى والمجال العام.
وعلى الرغم من أن العنوان يتضمن إحالة واضحة إلى الحالة اللبنانية إلا أن ما يتضمنه أوسع من ذلك بكثير، خاصة فيما كتبه تحت عنوان «يوم كانت صحف» لأن هذا الفصل مرثية حقيقية لحال الصحافة العربية انطلاقا من نماذجها اللامعة فى لبنان، كتابة من نسيج خاص بمعنى متكامل، تجمع حس المؤرخ بشغف القارئ الذكى.
فى الكثير من النصوص الموجودة بالكتاب مادة دسمة حول الوضع اللبنانى لكن غالبيتها «ثقافية نقدية» تمس الحياة اليومية وتستثمر كتابات رولان بارت عن «الأساطير» والاعلانات والمصارعة أو ما كتبه بيير بورديو عن التلفزيون أو كتابات ادجار موران عن النجومية والتسليع لتنظر فيما حولنا وتقرأه بفضول وشغف.
يذكر الكتاب الممتع كذلك بالأفكار الرئيسية التى تأسست عليها رواية (الشعلة الخفية للملكة لوانا) للكاتب الايطالى امبرتو إيكو، وهو مثله يجعل كل ما حولنا موضوعا للكتابة، الأسماء والكتب المدرسية والاعلام السياسية والأزجال والأغنيات التى تشكل فى الأخير مرآة زماننا.
ومن هنا قد تبدو قراءته لأغنية «بيت العز» لفايزة أحمد مقبولة وفى تلك القراءة يحاول التفكير فى «الشيطان» الذى كانت الأغنية تحذر منه وقت صعود تيار القومية العربية وكذلك يعطى وقتا للنظر فى الكيفية التى زحف بها «الساندوتش» لحياتنا وأصبح موضوعا للمديح يفكر فى مكوناته والكيفية التى نأكله بها وكيف أنه طعام عاجل يجافى النظام والطقس.
يتأمل كذلك الطريقة التى يسمى بها اللبنانيون أولادهم يذكر تماما بما كتبه المفكر لويس عوض فى مذكراته «أوراق العمر» عن التحولات التى رآها فى أسماء أفراد عائلته وكيف ربط هذا التحول بصعود قيم ثورة 19 ثم تراجعها وانكسارها وصولا إلى تأزم الوضع الطائفى وهو نفس ما انتهى اليه تحليل صاغية مع ظهور الحرب الأهلية، حين لاحظ أن كل أشكال المكبوت أصبحت تعود بقوة وثقة بعضها يمسك بالسيف وبعضها بجواز السفر لكنها تقول ما يقوله شبح الوالد لهاملت: «بأسمائكم قاتلوا، بأسمائكم انقتلوا».
وانسجاما مع هواية خدش الأيقونات، وكما فعل سابقا مع «أم كلثوم» يجرب صاغية هذه المرة الاشتباك مع صورة فيروز ويؤكد أنها وإن ما تزال على قيد الحياة إلا أن موتا ما يحيط بعالم أغنياتها، ويشكك فى صلاحية موضوعات أغنياتها عن الريف اللبنانى فى التعبير عن وضع حقيقى لكنها «نوستالجيا باردة» ــ على حد تعبيره ــ مبالغة فى انفصالها عن مصدرها الأصلى.
وأرجو من القارئ أن يفهم أن ما يكتبه صاغية ليس هجوما على فيروز أو محاولة للمساس بحضورها، لكنه ينسجم مع مشروعه فى مواجهة ثقافة «الأيقونات».
يقول صاغية: «لدينا فائض من الزعماء والقادة الذين نرفعهم فوق النقد» معتبرا أن معظم ما يكتب عن ثومة وعن فيروز يميل فى معظمه إلى تنزيههما عما هو أرضى وانسانى وحسى وهذا ما واجهته مطربة مثل صباح عاشت حياتها بالطول والعرض وخلقت حالة مضادة هى أقرب كثيرا إلى ما يفترضه الفن والنجومية فى الفنان النجم من «حياة متمردة».
يمتد نقد صاغية لأسطرة فيروز باتجاه تقديم تحليل نقدى لمشروع زياد رحبانى الذى يجمع على حد تعبيره بين «موهبة عليا، وثقافة دنيا».
وكعادته لا يتوقف فى الكتاب عن هجاء الأنظمة الاستبدادية ومناهضة كل أشكال التوريث والفساد السياسى، منتصرا للرقابة والشفافية ويهاجم كذلك الثقافة التى يغلب عليها الشفوى ويسود لدى أهلها الولع بانتظار المخلصين والأئمة الغائبين وتشيع فيها عبارات توصف بأنها «حكم» وهكذا يدرك القارئ ببساطة أن صاغية يقف على النقيض من الأقوال المأثورة ويكافحها بإصرار لأن اصحاب المأثورات يفترض دائما أنهم أتموا العلم وما عادوا بحاجة إلى مزيد منه فقد اطمأنوا بينما لا يزال هو مثل بيسوا يسطر فى كتاب «القلق».