بقلم : سيد محمود
أتاحت منصة نت فيلكس اخيرا مجموعة رائعة من الأفلام السينمائية التى صنعتها سينمائيات عربيات وكان للسينما المصرية فيها نصيب وافر يلائم تاريخها وحجم تأثيرها الكبير.
وقد لاحظت كما لاحظ غيرى الطفرة التى تعيشها هذه السينما فى بلدان مثل السعودية ولبنان والسودان وقد حقق سينمائيو هذا البلد الأخير قفزات نوعية مدهشة خلال الخمس سنوات ونال امجد ابو العلاء وصهيب عبدالبارى جوائز فى مهرجانات عالمية مهمة وضعت السينما السودانية فى مكانة فريدة وكشفت عن قفزة نوعية تحققت فى بلد عانى طويلا وافتقد أهله للفرص الإنتاجية وفضاءات العرض التى اتيحت لمبدعى البلدان الأخرى.
ويكفى للتأكيد على تميز السينما السودانية فى العام الأخير تأمل اللغة البصرية المبدعة فى فيلم (الست) لسوزانا ميرغنى وهو من بين الأفلام التى اتاحتها نت فيلكس أخيرا، ويصعب على المشاهد تفادى السحر فى الصورة وبقية عناصره.
وضمن هذه الباقة المتميزة من الأفلام نالت السينما المصرية نصيبا وافرا بالحصول على افلام متميزة منها (من القاهرة) لهالة جلال و(حمام ساخن) لمنال خالد و(هرج ومرج) لنادين خان و(احكى لى) لسارة الشاذلى وكلها افلام جميلة إلا أن الفيلم الذى جذبنى وأمتعنى بشكل خاص هو فيلم (من وإلى مير) للمخرجة ماجى مرجان.
وأعد هذا الفيلم أحد أجمل الأفلام التى شاهدتها خلال السنوات الأخيرة بفضل حساسيته الفائقة التى مس بها إحدى أكثر القضايا تعقيدا فى مصر المعاصرة وهى قضية الفقر والتنمية.
وميزة فيلم ماجى جاءت من الانتقال الناعم من السردية الخاصة إلى السردية العامة التى نعيشها فى واقعنا المحبط
الذى ينعكس على حالة أهالى قرية مير الواقعة فى محافظة أسيوط والتى تحظى بأغلبية سكانية من الأقباط الذين يعيشون فى البؤس ذاته الذى يعانى منه بقية الأهالى من المسلمين.
وبدافع تتبع الهاجس الشخصى فى حكايات الجدة بدأت المخرجة استعراض ملامح ذاكرة تفيض بالنوستالجيا عن صعيد مؤطر بذكريات تقارب عوالم السحر والأساطير وانتقلت بنا إلى واقعنا المعاصر حيث لم يعد هناك وجود لهذا العالم الساحر فى ظل الفقر الذى يدفع بالاغنياء والفقراء للقفز خارجه وللهجرة باختلاف الدوافع.
وجاءت الصورة التى صنعها زكى عارف بجمال نادر لتعزز معانى الذكرى وتؤطر المشاهد التى نراها بفيض من الشجن والحنين فالجانب الشخصى أضفى حميمية واضحة زاد من تأثيرها على الشاشة الحيوية والخفة التى تعاطت بها المخرجة مع ما تراه وترصده بشىء من التعاطف، فهى لا تنظر من الخارج تماما وبالتالى فالعين ليست أسيرة النظرة الاستشراقية التقليدية، لكن صاحبتها تحتفظ بمسافة فى التعامل مع الموضوع لتحافظ على إيقاع فريد يوازن بين ما هو وثائقى وما هو روائى وتكشف عن قدرات كبيرة فى تضفير حكايتها مع حكاية عائلة لوزة التى كانت ولا تزال واحدة من كبريات العائلات فى الصعيد وخرج من بين أفرادها أطباء مهرة أسسوا مستشفى بهمان للطب النفسى فى حلوان.
وتماثل عائلة لوزة غيرها من عائلات الصعيد مثل (مكرم عبيد وفخرى عبدالنور وحزين وأبوستيت) فى لعب دور تنموى كبير انطلاقا من أدوار أفرادها الذين نالوا حظهم من التعليم داخل وخارج مصر.
خرجت ماجى مرجان بفيلمها خارج إطار العائلة ووضعت قصتها فى الخلفية وانطلقت نحو شريحة أوسع من المواطنين الذين يعانون قسوة العيش ويتحايلون على شروطه القاسية وهكذا رأينا نموذج سمير القمص الذى يؤرخ لكل الوقائع التى تعيشها القرية وتابعنا أيضا رحلة العامل عبدالتواب وأفراد عائلته الساعين وراء فرص العيش أملا فى النجاة.
وعندما يصل المشاهد إلى مشهد النهاية سيجد نفسه أمام بيانو حكت عنه الجدة كثيرا وقت أن كان فى بيت لوزة وانتهى إلى أن أصبح قطعة موبيليا مهملة فى الكنيسة لكن المشاهد سيمتلك جدارية مدهشة لواقع الحياة فى قرية صعيدية تمزج الامل بالالم دون أن تفقد كل أسباب الجمال.
وأتحدى أن يمر الفيلم أمام أى مشاهد مهما بلغت ثقافته دون أن يفكر فى معايشة أبطاله الذين رافقتهم ماجى مرجان لنحو ١٣ عاما وعاشت معهم رحلة سقوط الأحلام وموت رومانى ابن عبدالتواب الذى يترك الشاشة وتبقى ابتسامته شاهدا حيا على قسوة الامل وهى وشم باقٍ لن تبدده أطياف الذكرى.