بقلم: سيد محمود
فى مدينة ريمينى الايطالية التى أحب شغفها بالحياة لا ينقطع الحديث عن الجمال، ليس فقط لأنها مدينة المخرج الايطالى العظيم فلينى الذى جعل العالم كله يفكر فى السينما بطريقة مختلفة، وإنما لأنها تأتنس بالبحر وتعتمد فى شهرتها على «الافكار» التى يقترحها منتدى ريمينى للصداقة بين الشعوب.
وعبر أربعين عاما تحول المنتدى إلى أكبر تجمع فكرى فى غرب أوروبا ونجح فى جذب نحو 800 الف زائر فى أسبوع انعقاده الذى يشهد تقديم 179 لقاءً مع 625 محاضرًا، إلى جانب 25 عرضًا فنيا و 20 معرضًا و35 حدثًا رياضيًّا.
وبفضل نبل أهدافه أصبح الجمال مفردة رئيسية فى تلك الفعاليات حيث لا تخلو ندوة من إشارة تقود إلى اكتشاف الذات ومن ثم ادراك الجمال الإنسانى.
رفع المنتدى فى هذه الدورة شعارا تم اقتباسه من بيت شعرى يقول: «يولد اسمك مما كنت تُحَدِّق فيه»، ونبهنى الدكتور وائل فاروق عضو اللجنة المنظمة للقاء إلى أن العنوان هو بيت شعر لكارول ڤويتيلا (بابا الڤاتيكان الأسبق يوحنا بولس الثانى) لكنه يلقى الضوء على تجربة مررنا بها جميعًا، على الأقل فى اللحظات الحاسمة والأكثر أهمية فى حياتنا، وهى تجربة أن «اسمنا»، هو ماهيتنا الإنسانية، لكنه يولد مما نحدق فيه.
والمقصود شكل علاقتنا مع غيرنا، ما يعنى أن اكتشاف الذات يبقى مرهونا باختبار علاقتها مع عنصر خارجى وقدرة التفاعل معه.
وشىء من هذا يقوله الراهب خوان كارون الأب الروحى لحركة «شراكة وتحرر» المنظمة للمنتدى فى كتابه «الجمال الأعزل» الذى صدر عن مكتبة الإسكندرية فى ترجمة عربية بديعة أنجزها الدكتور حسين محمود أستاذ الأدب الإيطالى فى جامعة بدر.
وميزة هذا الكتاب كما يقول مترجمه أنه أقرب لكتب التأملات أو الشذرات التى تعتمد على فكرة لامعة ذات طابع صوفى يمنحها بعدا شعريا يسحبها من منطقة «النظريات» إلى فضاء روحى يخاطب الجميع دون تمييز وعبر لغة بسيطة تتجاوز الحدود الدينية وتجذب قارئها إلى فضاء المعنى.
وموضوع الكتاب الذى تم الاحتفاء بطبعته العربية داخل المنتدى ليس هو «الدين» رغم ان محتواه لا يبتعد عما يشغلنا فى مصر بشأن تجديد الخطاب الدينى أو التخوف من أن يؤدى اتباع نمط من التدين إلى شكل من أشكال التطرف والقتل باسم الرب.
يدافع الكتاب بوعى الفيلسوف عن العقل النقدى ويزكيه كآلية وحيدة للنجاة من المأزق الراهن، وبنفس القوة يزكى الايمان بالآخر.
الميزة التى يحققها منتدى ريمينى كما شرح حسين محمود تأتى من كونه التمثيل الحى والمتجسد لافكار خوان كارون الداعية للتعايش مع الآخر، وبناء مساحات من الحرية والتعايش فى مجتمع تعددى.
فى لقاء «ريمينى» الأخير الذى يختتم أعماله السبت المقبل تزداد فى كل فعالية مساحة حضور الثقافة العربية والإسلامية ورجالها ما يؤكد جدارة فكرة كارون على ضرورة ابراز الهوية الشخصية وليس الهوية الدينية واذا كان قد اعتبر فى كتابه أن اللقاء الإنسانى يعتمد على خلق ما يسميه «الفضاء الأبيض» حيث التحرر من الافكار المسبقة فإن مترجمه الفذ يقترح مصطلحا آخر هو «فضاء بلا ألوان» لأن البياض محمل بميراث يقوم على التمييز والمفاضلة.
وما يقترحه الكتاب هو الرهان على خلق عالم بلا مركزية وما يقصده بالجمال الأعزل هو الايمان القائم على تزكية نزعة الحب لا على عبادة النصوص.
وبنص الكتاب لا يوجد سبيل آخر يوصل إلى الحقيقة إلا عبر الحرية. فالتاريخ هو فضاء للحوار فى إطار من الحرية؛ وهذا لا يعنى أنه فضاء فارغ، أو صحراء قاحلة قوامها أطروحات للحياة؛ لأننا لا نعيش فى اللا شىء. لا يمكن لأحد أن ينهض على قدميه، وأن يقيم علاقة بَّناءة مع الواقع؛ دون أن يكون لديه شىء ما يستحق العيش من أجله.