بقلم: سيد محمود
عدنا إلى عبودية نشرات الاخبار وصار الجلوس امام الشاشات طوال اكثر من اسبوع إدمانا بعد فترات من التعافى. أجبرتنا الأوضاع فى الجزائر والعراق ولبنان على ذلك، ننفق الساعات الطوال لقراءة عشرات المقالات او الاستماع لتحليلات الخبراء، ولانى اعرف لبنان اكثر من غيره فقد بات من الضرورى توجيه التحية للشعب اللبنانى الذى صمد لأكثر من عشرة ايام وقاوم عشرات التحذيرات ودعاوى الترهيب التى تهدد بقوى الداخل والخارج.
ولا يمكن لمن يعرف هذا البلد ان يُتهم أفراده بخوض مغامرة قد تصل بهم إلى الهاوية كما يروج البعض لهذه الفكرة ويستعمل مآل الثورات وانكسارها فى بلدان عربية اخرى كفزاعة لترهيب الناس هناك.
لم ينتقض اللبنانيون رغبة فى التنزه أو الاستعراض او تغيير (المود) وإنما تعبيرا عّن حاجات حقيقية وأملا فى تغيير الوجوه اللى شاخت فى مقاعدها وهى تحكم باسم الطائفة وليس باسم المواطنة.
وجوه رافقتنا بقدر أعمارنا وصرنا نميز أسماءها فى نشرات الاخبار ونحفظ مواقع تمركزها فى الأحياء والضواحى
وبفضل رغبتها فى الاستمرار صارت طبقة محصنة ولأجلها زيف السياسيون والإعلاميون وعينا بلبنان وأقنعونا بانه مقسم بالفعل
وأعجبتنا اللعبة ولم نخرج من محيط تأويلاتها.
واكبت طفولتنا الحرب الأهلية فحفظنا اسماء مدن واحياء لبنانية كثيرة ارتبطت بالاخبار ولما انتهت الحرب جزئيا باتفاق الطائف روجنا دون وعى لعبارات من نوعية (لبنان ليست بلدا لكنه مجرد اتفاق)، (لبنان مهنة وليست جنسية) عبارات صرنا اليوم اكثر إدراكا لطابعها العنصرى لكنها رغم ذلك كانت تعبيرا مجازيا عّن فكرة (التقسيم) التى كان يتم ترسيخها فى الوعى الجمعى العربى بطريقة لا يهم ان كانت عن وعى او لا وعى، فالمهم انها اقرت واقعا نجحت الثورة فى تعريته وهزيمة الوجوه التى تكلست فى أماكنها وعجز خيالها القديم عّن ادراك بلاغة الواقع الجديد وتجلياته.
واقع مأزوم على الصعيد الاقتصادى كانت تستخدم فيه ورقة المقاومة كفزاعة للترهيب او ضمانة لاستقرار (هش) لا قيمة له على ارض الواقع وهذه حقيقة ادركها اللبنانيون وادركوا معها أهمية التوقف عن تأليه زعامات لا تملك من امرها شيئا وتخوض حروبا بالوكالة تعبيرا عن مصالح بلدان اخرى.
وتختل قدرتها على احتواء الأوضاع بالخطابات الشعبوية التى أنهى الزمن صلاحيتها وأفقد مفعولها إلى الأبد.
فمن المفارقات اللافتة ان يفقد سعد الحريرى قدرته على تمثيل تياره السياسى فى نفس الوقت الذى تتراجع فيه كاريزما حسن نصر الله.
وعلى ما بينهما من الاختلافات يتساويان امام الشاشات وتصبح لأن أزمتهما واحدة هى الخروج من النفق.
وتعطى احداث النبطية إشارة دالة على حجم التغيير الذى تعيشه لبنان فقد كانت هذه المنطقة تدين بولاء مطلق للسيد حسن فيما هى اليوم ناطقة بلسان الثورة مثلها فى ذلك مثل نجوم الغناء والاستعراض الذين يستحقون تحية خاصة لاننا كنّا نظن انهم فى دائرة الأمان الاجتماعى وجاء انحيازهم للناس دليلا اضافيا على تلازم السياسى والاجتماعى فى حزمة واحدة.
وايا كانت النتائج فيكفى ان اللبنانيين فخرا انهم استردوا احساسهم بالعلم الوطنى ففى زيارات متعددة كنت اراهم وبالذات خلال بث مباربات كأس العالم يتصارعون تحت رايات اخرى لا تعنيهم.
وكان العلم اللبنانى متواريا فى خضم حمى التنافس والصراعات التى يشعلها فائض الاعلام الاخرى التى توارت كلها اليوم لصالح علم واحد ووحيد هو علم لبنان الذى أظهرته الثورة خفاقا.
فلا يمكن وصف ما جرى فى ساحات طرابلس وبيروت، الا بالثورة، فالاحتجاج كان يمكن وقفه بحزمة من الإجراءات الاقتصادية العاجلة بينما الثورة لا تتوقف وتبتكر حلولا لمحاولات حصارها لأن عليها ان تتواصل لتنجز مهمتها فى محو الطائفية وبقى عليها ان تنجز مهامها الاخرى الباقية فى إفراز الوجوه التى تكمل مهمة (علمنة لبنان) فهو وحده البلد المؤهل لذلك بتركيبته.