بقلم - هدي رؤوف
تتسم بيئة الشرق الأوسط بكونها بيئة صراعية منذ القدم، وللآن. وتستمر تلك الحالة الصراعية لتعكس فشل المنطقة فى أن تتحول إلى مجتمع إقليمى ينجح فى خلق آليات لحل أزماته وصراعاته، والتعاون لتنمية موارده وتطويره وتعزيز التعاون الإقليمى. بل العكس تماما ما تشهده المنطقة، هناك عدد من القوى الإقليمية التى تتنازع حول دور السيطرة والقيادة، وتقديم نفسها للقوى الخارجية باعتبارها من يمكنه التأثير فى الإقليم. وتغيب عن تلك القوى وجود تهديدات مشتركة تواجه المنطقة، فلا يوجد تعريف محدد لكل منها عما يمثل تهديد حقيقى لاستقرار وأمن الشرق الأوسط، على الرغم وجود تواقف أمنى بينهما أى أن أمن كل منها يؤثر على أمن الدولة الأخرى. ويتزامن بالطبع مع حالة غياب التهديدات المشتركة عدم اعتراف أى من دول المنطقة بمصالح الدولة الأخرى ومناطق نفوذها. صحيح هناك اختلاف فى المصالح، لكن ليس هناك احترام لتلك المصالح فى سبيل العمل لتنمية الإقليم.
فنجد أن ما تعتبره مصر تهديدا لأمنها ولأمن الآخرين وصنفته باعتباره جماعات إرهابية لا تعتبره دول أخرى كذلك، بل تعد إحدى أدواتهم فى سوريا وليبيا والعراق. كما أن إيران ذاتها، هناك انقسام خليجى حول الموقف منها، فلدى إيران علاقات قوية مع قطر وسلطنة عمان والكويت، فى حين تتصارع مع الإمارات حول الجزر المحتلة وتتنافس مع السعودية. نفس هؤلاء الأطراف تغيب رؤيتهم المشتركة لحل الصراعات، فالتصور والمشروع التركى فى سوريا يختلف تماما عن نظيره السعودى والإماراتى، كما أن رؤية مصر لوحدة سوريا والعراق وليبيا تختلف عن رؤية حليفتها السعودية. كما أننا لا نتحدث عن تنافس بين الإسلام الشيعى والسنى فقط، بل داخل الإسلام السنى هناك نموذج الإسلام السياسى الذى طرحته تركيا ومعها قطر بدعم التنظيمات الإسلامية كالإخوان المسلمين، وهناك نموذج الإسلام السعودى، بل مؤخرا تحدثت الأوساط الغربية عن الإسلام السلفى الذى تمثله داعش والتنظيمات الجهادية. واستثمرت كل من تركيا وقطر فى نموذج الإسلام السياسى وقدمته للغرب بديلا للنظم العربية القائمة، وهو ما أسقطته مصر بثورة 30 يونيو ومنها سقط مشروع الإسلام السياسى فى المنطقة. وقد أعاد مقتل خاشقجى الضوء على التنافس «التركى- السعودى».
هذا التباين فى تعريف القوى الإقليمية بالشرق الأوسط للمصالح والتهديدات بلور لدينا عدة ملاحظات، أول هذه الملاحظات، هو فشل تشكيل تحالفات دائمة بين الأطراف المتوافقة. فلم تتشكل تحالفات من الدول الإسلامية السنية فى مواجهة إيران الشيعية، تتكون من دول الخليج ومصر وتركيا، ولم تتشكل تحالفات حقيقية فى مواجهة داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى، ولا يوجد موقف عربى تجاه إسرائيل.
الملاحظة الثانية هى عدم قدرة أى من تلك القوى الشرق أوسطية على تقديم مشروعها للإقليم، أى عدم تقديم تصور لترتيبات أمنية تحقق استقراره، أو تقدم من خلاله منافع عامة تبنى أمنا واستقرارا وتدعم الدول الأضعف به. بل على العكس إن بعض دول المنطقة تقدم دعما عسكريا أو اقتصاديا فقط للفواعل التى تعتبرها أدوات تنفذ سياستها فى إطار سعيها للسيطرة. أما ثالث الملاحظات فهى إطالة أمد صراعات الإقليم وتعقدها على غرار الأزمتين السورية والليبية، نتيجة لاستمرار حالة ضعف تأثير دول المنطقة، ومن ثم تدخل القوى الخارجية مثل روسيا والولايات المتحدة. أما الملاحظة الرابعة، أن إسرائيل هى القوى الإقليمية الوحيدة التى استفادت من ذلك الوضع المضطرب فقد نجحت فى تقديم ذاتها باعتبارها دولة مرساة anchor state مستقرة سياسيا واقتصاديا وعلميا، ويمكن لدول المنطقة الاعتماد عليها فى بناء علاقات تضمن لهم الاستقرار الاقتصادى والتنمية. حدث ذلك على الرغم من أن إسرئيل لم تقدم نفسها باعتبارها قائدا أو مسيطرا فى الإقليم، لأنها تدرك جيدا سذاجة ذلك الادعاء فى محيط عربى مسلم. بل إنها اهتمت أكثر بالاستفادة من الأوضاع المضطربة لتحقيق منافعها الاقتصادية.
إن التفاعلات السياسية فى المنطقة فى السنوات العشر الأخيرة، أوضحت أنه لا توجد دولة واحدة تملك معظم المقومات التى تمكنها من السيطرة أو التأثير فى الإقليم بشكل منفرد، فتتوزع الخصائص ما بين أكثر من دولة، فكل دولة تستخدم أدواتها للتأثير والتحرك وتقابلها أدوات مضادة من الأطراف الأخرى، لكن من غير ما يكون لديها مشروع حقيقى أو تمثل المنطقة دوليا على المستوى المؤسسى أو تقدم حلا لصراعاته، أى يمكن أن نقول هناك حالة من توازن الضعف بين كل القوى الإقليمية، أو ما يطلق عليه البعض تشتت مصادر القوة بين القوى الإقليمية، ولا يوجد طرف ينفرد فى تأثيره بالإقليم من دون الآخرين أو يدعى أن الشرق الأوسط مساحة نفوذه its sphere of influence.
وأخيرا يجب التنبيه إلى أمرين، أولاً هناك فارق شديد بين الزعامة والسيطرة، فالقيادة مفهوم مدلولاتها إيجابية تدل على دولة، تقبل الدول الأخرى قيادتها وأن تتبعها، كما تحترم رؤيتها ومبادراتها ولديها مشروع يقتدى به كثيرون، ربما تكون الحالة المصرية هى أوضح النماذج حينما حملت مشروع التحرر من الاستعمار ومساندة الآخرين، مع اعتراف إقليمى ودولى بدورها حتى لو رفضته القوى الأجنبية. أما السيطرة فتعنى السعى للتأثير لتحقيق المنافع الخاصة للدولة على حساب الغير.
ثانياً: هناك مؤشرات يمكن أن نقيس بها حدود قيادة أو سيطرة أى قوى إقليمية، منها القبول الإقليمى لدور تلك الدولة أو سياستها الخارجية، ومن ثم وجود تابعين لتلك الدولة أم لا، ومدى تنفيذ وقبول مبادراتها ورؤيتها لحل صراعات وأزمات الإقليم، ومدى اعتماد الخارج عليها فى حل قضايا المنطقة، وتمثيلها، وهل تستطيع تلك الدولة تنفيذ سياستها الخارجية بأقل تكلفة عبر استخدام القوة الناعمة بدلا من اللجوء للقوة العسكرية، أى هل تقدم نموذجا يتم التأثر به؟. هل تشكل نموذجا اجتماعيا وثقافيا وتعليميا وجاذبة للعمل بها؟. كلها مؤشرات تدل على مدى وجود قوى إقليمية نموذج أو قائد من عدمه.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية