بقلم - عبدالعليم محمد
حري بنا، ونحن على مشارف الذكرى الخامسة لثورة الثلاثين من يونيو عام 2013، أن نتذكر المبادئ والقيم التي استهدفت ترسيخها في الواقع، والمسار الذي تبنته هذه الموجة الثورية، لتحقيق هذه المبادئ والأهداف، وذلك حتى لا تغيب هذه المعاني في زحمة التفاصيل المتعلقة بمستوى المعيشة والغلاء، وتداعيات الإصلاح الاقتصادي، وأن نركز على التوجه الاستراتيجي العام الذي يتجاوز التفاصيل، ويركز على «النموذج الاسترشادي» الحاكم للتفاعلات والتوازنات، ليس فحسب في مصر، بل في الإقليم بصفة عامة.
أول هذه المبادئ التي استرشدت بها ثورة الثلاثين من يونيو، هو بلا شك مبدأ المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن المعتقد الديني والموقع الطبقي والاجتماعي، أي إعادة الاعتبار «لبوتقة الصهر المصرية» التاريخية، التي تمكنت عبر العصور من خلق نسيج مصري متماسك ومتميز، يحث على العمران وبناء الحضارة، ويحفظ للدولة قيمتها في حياة المصريين، ويعلي الانتماء الوطني على ما دونه من انتماءات أولية وبسيطة، بل وبدائية، كالطائفة والملة والعشيرة والمذهب، وهذا المبدأ يضرب بأعماقه في جذور التاريخ المصري، فلم يعرف المصريون التمذهب والمذهبية على النحو الذي عرفته العديد من البلدان الإسلامية، وتجاورت طبقات التاريخ الفرعوني والقبطي والإسلامي، في إطار وحدة التاريخ المصري بكل تنوعاته وألونه المختلفة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن مبدأ المواطنة يمثل خلاصة العصر والحداثة والانتقال من زمن الانتماءات الدينية والطائفية، إلى زمن الحداثة والدولة الحديثة، التي تستهدف تنظيم هذا المبدأ، وتحديد علاقة الدولة بالمواطنين، وحفظ حقوقهم، في إطار من النظام العام والقانون.
أما المبدأ الثاني الذي استهدفته ثورة الثلاثين من يونيو، والتي رفض فيها الشعب «حكم الإخوان»، وساندته القوات المسلحة، فهو مبدأ الدولة المدنية، وفق الإطار التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الدولة في مصر منذ بداياتها الأولى، وهي الدولة التي تحكم وفق القوانين والتشريعات الحديثة، التي تقرها هيئات منتخبة وممثلة للمجتمع، ولكنها في نفس الوقت لا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، المتمثلة في حفظ النفس والدين والنسل والعقل والمال، ولا شك أن الإصرار على مبدأ الدولة المدنية الحديثة، ينطوي على رفض نموذج الدولة الدينية، التي تروج له جماعات الإرهاب والجماعات «المتأسلمة»، على ضوء فهم مغرض ومحرّف للنص الديني، بهدف تطويعه لمصالح ومطامع جماعات محدودة، وفرض سيطرتهم على المجتمع، بل ووصايتهم عليه، الدولة الدينية أو بداياتها، كما تجلت في حكم «الإخوان»، هددت النسيج الوطني التاريخي الذي حافظ عليه المصريون عبر الزمن، وتحول المصريون بين عشية وضحاها إلى فرق وطوائف ومذاهب، يستحق بعضها القتل والحرمان من المواطنة، وهو الأمر الذي كان ينبئ باحتمال حرب أهلية، وتخريب الوحدة الوطنية التي حافظ عليها المصريون عبر الزمن.
أما ثالث هذه المبادئ، فيتمثل في عدم اقتناع المصريين «بديمقراطية الإخوان الانتقائية»، أي ذلك النمط من الديمقراطية، الذي يكتفي من الديمقراطية بالمبدأ الانتخابي فقط، بينما تسقط بقية الجوانب المضمنة في التجربة الديمقراطية، ألا وهي حفظ حقوق الأفراد والمواطنين، وحقوق المجتمع المدني، والتنكر لحقوق الأقلية، وتعزيز استبداد الأغلبية، وتأمين هذا الاستبداد بقوانين استثنائية، والحال أن هذا النمط من الديمقراطية، غير ليبرالي، بل هو في حقيقته نوع من "التسلطية" باسم الدين هذه المرة.
رفض دعاة الدولة الدينية، التوافق في كافة المراحل، وأصروا على الاستئثار بكل شيء، بدءاً من الدستور وتعديلاته الأولى، وانتهاءً بوضع دستور رسخ أوضاعهم، وانتقلوا سريعاً من دعوة المشاركة "إلى دعوة المغالبة" والإقصاء، ولم يكن المواطنون في غفلة عما يدبر ظاهراً وباطناً، وعرفوا من هو صاحب الكلمة العليا في إدارة شؤون الدولة، ألا وهو "المرشد العام" للجماعة.
لقد انكشف المستور من مخططات الإخوان وبرنامجهم في الحكم، وسقط القناع عن وجوههم التي تلونت بمختلف الألوان «الديمقراطية» و«التعددية» «وتداول السلطة»، والتي سقطت في أول وآخر اختبار، عندما تيقن المصريون من الربط بين الظاهر والمعلن، والمخفي والباطن، أي بين الأيديولوجيا والممارسة العملية للسياسة، وساندتهم في ذلك القوات المسلحة المصرية، التي تمثل العمود الفقري للدولة المصرية.
باستقرار هذه المبادئ مع ثورة الثلاثين من يونيو، ومواجهة التحديات التي ارتبطت بها، تلك المتعلقة بمواجهة الإرهاب، وتعزيز مكانة الدولة والقانون، والنهوض بالاقتصاد، يمكن القول إن آثار وتداعيات الثلاثين من يونيو، قد تجاوزت حدود الزمان والمكان، بمعني أنها لم يقتصر تأثيرها في مصر فقط، بل امتد هذا التأثير إلى دول أخرى في الإقليم، كما أنها لم ترتبط زمنياً بحقبة معنية، بل امتدت لتمثل توجهاً عاماً لفترات قادمة طويلة، لأنها رسمت الخطوط العريضة لهوية مصر في تركيبها وتعقيدها وطبقاتها المتراكمة، وحددت معالم التطور المستقبلي، الذي يتمثل في الاتصال والتواصل مع العصر، وتجديد الخطاب الديني، وقطع الطريق على الإرهاب والعنف، وإعمال مبادئ التربية المدنية الحديثة، والانتماء الوطني، ورفض العنف، وترسيخ قيم التطور السلمي والديمقراطي، الذي من الواجب تدعيمه باحترام الحقوق وحريات المجتمع المدني، وتعزيز حكم القانون.
نقلا عن البيان الاماراتية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع