الشهر الماضى احتفلت الأوساط الفلسفية فى العالم بذكرى مرور ثلاثمائة عام على مولد الفيلسوف الألمانى العظيم «إيمانويل كانط» (٢٢ إبريل ١٧٢٤- ١٢ فبراير ١٨٠٤)، أحد أبرز الأسماء التى أعطت ألمانيا زخما فكريا وحضاريا.
فى جامعاتنا المصرية وأقسام الدراسات الفلسفية بها، فضلا عن المؤسسات الثقافية الكبرى، رسمية كانت أو أهلية، مرت المناسبة فى صمت تام، رغم أن الأجيال السابقة اهتمت كثيرا بهذا الفيلسوف الذى يتم التأريخ للفلسفة بما قبله وما بعده.
فى العام ١٩٥٢، نقل د.عثمان أمين أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة إلى العربية دراسة كانط «مشروع دائمً للسلام العالمى»، يعتبر البعض ذلك المشروع دعوة مبكرة جدًا لتأسيس هيئة الأمم المتحدة، ثم قام عثمان أمين كذلك بترجمة كتاب «إميل بوترو» عن كانط وفلسفته، بعده، فى الستينيات تولى د.عبد الرحمن بدوى مع بعض تلاميذه، تحديدا د.نازلى إسماعيل وكذلك د.عبد الغفار مكاوى، ترجمة الأعمال الثلاثة الرئيسة لدى كانط مثل «نقد العقل الخالص»، أستاذ الفلسفة العظيم د.زكريا إبراهيم، الذى فقدناه مبكرا قدم، فى الفترة نفسها، كتابا مهما عن كانط وفلسفته النقدية افتتح به سلسلة عبقريات فلسفية.
سوف نلاحظ أن عثمان أمين كان متخصصا فى فكر الشيخ محمد عبده ومنشغلا بديكارت، كما قدم «الجوانية»، واعتبرت فلسفته الخاصة. عبد الرحمن بدوى كان متخصصا فى الفلسفة الوجودية ويعد نفسه أحد فلاسفتها. د.زكريا إبراهيم كان متعدد الاهتمامات والكتابات، لكنهم جميعا استشعروا حاجة الثقافة العربية إلى التعرف مباشرةً والاحتكاك بفلسفة وأفكار ذلك الفيلسوف العظيم.
ذلك الجيل أدرك حاجتنا الماسة لقراءة وفهم كانط، سواء فى جانبها النقدى أو الاهتمام بالفلسفة الأخلاقية، نحن فى حاجة إلى العقل النقدى لمراجعة الكثير من أفكارنا وعاداتنا، لكن منذ نهاية السبعينيات ولأسباب عدة تراجع الاهتمام بالفلسفة، بل بالأفكار الحديثة والمعاصرة عموما. التخصص فى هذا المجال يقتضى -ابتداء- التمكن من لغة أجنبية على الأقل، يقتضى أيضا التواصل العلمى مع الجامعات الكبرى والمراكز الفكرية حول العالم وإرسال البعثات إليها، مع نهاية السبعينيات، ساد مناخ جديد يسخر من الدراسات النظرية، لنتذكر فيلم النجمين محمود ياسين وحسين فهمى «انتبهوا أيها السادة»، سنة١٩٨٠، والذى أطاح فيه «الزبال محمود ياسين»- بعربته الكارو وبمكاسبه الهائلة- بأستاذ الفلسفة حسين فهمى، لم ينطلق الفيلم من فراغ.
ركزت الجامعات البعثات إلى الجامعات الكبرى فى الخارج، على التخصصات العلمية، وتراجع الاهتمام بالعلوم الإنسانية أو النظرية، تحديدا ما يخص بعض أقسام كليات الآداب، اقتصر الأمر غالبًا على المنح التى تقدم من الخارج، جامعات أو هيئات، وغالبا تكون لأقسام اللغات الأجنبية، غربية كانت أو شرقية، وخرج من يبرر ذلك بأننا فى مجال العلوم الإنسانية أصحاب تراث ضخم ولا نحتاج إلى «تغريب»، فى خلط معيب.
توافق مع هذا كله أن التعليم قبل الجامعى- أقصد المدارس الحكومية- لا يهتم كثيرًا بتعلم لغة أجنبية تعلما يتجاوز حدود درجات الامتحان وزيادة مجموع الدرجات، هذه الفترة نفسها شهدت توسعا كبيرا فى أعداد المقبولين بهذه الكليات، ازدادت أعداد الأقسام بها، حين كنا طلابا فى آداب عين شمس، مطلع الثمانينيات، كانت تضم ثمانية أقسام، صارت (١٤) قسمًا بعد أقل من عشر سنوات، ثم استقل قسم الآثار وصار كلية وكذلك قسم الإعلام الذى كان فى بدايته شعبة فى قسم الاجتماع.
شهدت كليات الآداب وغيرها من الكليات النظرية توسعًا أفقيا، ربما فرضه ازدياد أعداد الطلاب الذين يضخهم مكتب التنسيق سنويًا، يجب القول إن التعلم حق دستورى للمواطن، يجب أن تكفله الدولة، وقد ناضلت أجيال من النخب والإصلاحيين لضمان هذا الحق. وللحق تنافست الحكومات منذ مطلع القرن العشرين بضمان ذلك الحق، بغض النظر عن انتمائها الفكرى والسياسى، غير أن المعضلة كانت فى أن تتمكن كل حكومة من توفير التغطية المادية لذلك، وكانت معضلة الأكاديميين والعلماء هو أن لا يطغى الكم على الكيف، أى أن التوسع فى التعليم يجب أن يبقى مقترنا بمستوى رفيع من التحصيل والتعلم، لكن الذى حدث هو أن تم التوسع دون التعمق العلمى والفكرى الكافى، وكان الكل يحذر ويبحث منذ مطلع الخمسينيات لحل هذه المشكلة، لكن، لأسباب سياسية وضغوط اجتماعية، تم الاستسلام لها منذ منتصف السبعينيات.
ترتب على ذلك افتقاد الانفتاح والتواصل الفكرى والثقافى مع العالم بصورة مرضية، فى وقت ما كنا طرفا رئيسيًا فى الجدل حول ما يتعلق بأفكار وفلسفات مثل الوجودية والوضعية المنطقية وغيرها وغيرها، فى الفلسفة الإسلامية كنا سباقين ولدينا أعمال الشيخ مصطفى عبد الرازق وإبراهيم بيومى مدكور، ومحمد عبد الهادى أبوريدة وبدوى وغيرهم. فى علم الاجتماع وعلم النفس والتاريخ الأمر كذلك، وغيرها من بقية التخصصات.
كانت لدينا حركة ترجمة واسعة لأمهات الكتب والمصادر، مع عملية تحقيق علمى للمخطوطات والأصول القديمة. وكان المجتمع يعيش حالة من التسامح والاستعداد لتفهم ما لدى الآخرين.
ازدياد أعداد الخريجين مع تراجع المستوى العلمى والفكرى، بات ملحوظا للكثيرين، باتت الشهادة الجامعية مقصودة لذاتها، وجاهة اجتماعية، بغض النظر عما تساويه وتعنيه ثقافيًا وعلميًا، المجتمع بات لديه اقتناع الاكتفاء بما لديه ولم تعد هناك حاجة للبحث والتعلم من الآخرين، كان محمد صبرى فخورا أنه خريج السوربون فيسمى نفسه «السوربونى»، اليوم ما عاد أحد لديه مثل هكذا توجه علمى ودراسى.
بمعيار سوق العمل والاقتصاد والحصول على فرصة عمل جيدة، تدر دخلا ماديًا مريحا، يجب أن نقلل الأعداد، لكن بمعيار الإضافة والعمق الثقافى والفكرى لا بد من اهتمام آخر، يتعلق بشروط ومواصفات الالتحاق بتلك الدراسات، فضلا عن مناهج وطرق التدريس ثم طرق التقييم والحكم على الطالب. وأخشى أن يتصور البعض الشكوى من ازدياد أعداد خريجى الكليات النظرية وضعف المستوى، على أنها دعوة للتخلص من بعض أو كل تلك الكليات والدراسات.
أثبتت العقود الأخيرة افتقادنا العميق للأفكار والفلسفة الإنسانية، منذ حادث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، ثبت للجميع أن معظم قادة الإرهاب هم من خريجى الكليات العلمية، أيمن الظواهرى كان خريج كلية طب قصر العينى، محمد عطا حاصل على بكالوريوس هندسة، نال الماجستير من جامعة ألمانية، محمد البلتاجى، الذى هدد الشعب المصرى من منصة رابعة، أستاذ فى كلية الطب وهكذا، طبقا لكتاب «البروج المشيدة» فإن حوالى ٩٢% من رموز الإرهاب تخرجوا من جامعات متقدمة وكليات عملية، وفى بعض التحليلات إن هؤلاء كانوا طلابًا أجادوا «حفظ» المواد العلمية لكنهم لم يدرسوا بالمرة علومًا إنسانية، ولا استمتع عدد منهم يومًا بأى فن، باختصار لم يتعرضوا لدراسات تشحذ المخيلة وتحفز التفكير النقدى والضمير الحر.
لا يعنى ظهور هؤلاء الإرهابيين أن كل خريجى الكليات العملية إرهابيون، بينهم مبدعون وفنانون عظام، رئيس دار الأوبرا فى وقت ما كان فى الأصل أستاذا بطب الأزهر.
لهذا كله كثرت المطالب فى السنوات الأخيرة بضرورة إضافة بعض هذه المواد إلى الكليات العلمية.
وكشفت السنوات الأخيرة أيضا ضرورة تجديد الخطاب والفكر الدينى والسياسى والثقافى عامةً، ولن يتحقق ذلك دون وجود باحثين ودارسين فى الدراسات الفلسفية وعلم الاجتماع وعلم النفس والدراسات القانونية، صارت هناك تخصصات مكتملة حول علم الاجتماع الدينى ونفسية المتدين، فضلا عن فلسفة الدين، نفتقد الاهتمام الواسع فى هذه التخصصات، بل وأن نكون جزءا أساسيا فيها بعلمائنا وباحثينا، الأمم تتجدد وتتطور بالأفكار التى تثير التساؤلات المهمة وتحاول التفاعل مع قضاياها الكبرى.
لنتأمل الآن ما يجرى فى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة، وقفة الطلاب أمام موقف الإدارة الأمريكية من حرب الإبادة فى غزة، ولنتذكر أنها الجامعة التى أسس بها المفكر الراحل إدوار سعيد أفكاره ومدرسته النقدية.
لم يعرف تاريخ العلم الفصل الحاد بين ما هو إنسانى أو نظرى وما هو عملى أو علمى، فيثاغورس صاحب النظرية الرياضية الشهيرة كان فيلسوفًا، نفس الأمر ينطبق على الفيلسوف اليونانى «طاليس»، وفى الفلسفة الحديثة لم يكن رينيه ديكارت بعيدا عن الرياضيات ونظرياتها.
العلوم الإنسانية تحتاج منا جدية أكثر واهتماما أعمق.