مرت، أمس السبت، ذكرى وفاة عميد الأدب العربى د. طه حسين، هى الذكرى الخمسون، وقد حدث احتفاء صحفى بالمناسبة، لكن الاحتفاء من المؤسسات «الرسمية» كان منعدمًا فى كثير منها وخافتًا لدى تلك التى تذكرت الحدث أو دُفعت إلى التذكر فى اللحظة الأخيرة تحت الضغط الصحفى والإعلامى.
يطرح ذلك الموقف تساؤلًا حول تخوف العديد من المؤسسات الرسمية من طه حسين ومحاولة تجنبه!.
كان طه حسين- حتى رحيله- رئيسًا لمجمع اللغة العربية، وهو مؤسس جامعة الإسكندرية سنة ١٩٤٢، وافتُتحت جامعة عين شمس حين كان وزيرًا، ثم إنه أحد رموز جامعة القاهرة، الذين منحوها ثقلًا معرفيًّا وأكاديميًّا كبيرًا فى مجتمعنا المصرى وفى المحيط العربى والدولى. أول دكتوراه منحتها الجامعة فى تاريخها، مايو سنة ١٩١٤، كان هو صاحبها، كانت عن أبى العلاء المعرى، هو كذلك كان وزيرًا للمعارف العمومية، حين كانت الوزارة تشمل الجامعات أيضًا وليس فقط التعليم ما قبل الجامعى، علاقته بالوزارة وتوليه عددًا من المواقع والمسؤوليات بها يسبقان توليه الوزارة بقرابة عشرين عامًا، رغم ذلك تجاهلت تلك المؤسسات المناسبة. هذا الموقف ليس جديدًا، لكنه كان قائمًا، حتى فى حياة العميد.
فى نوفمبر سنة ١٩٦٤، احتفل العميد بعيد ميلاده الخامس والسبعين، أرسلت مجلة المصور محررها المتميز، ماجد عطية- غادرنا هذا العام- لحضور الحفل وإجراء حوار للمجلة، لاحظ المحرر أن أحدًا من تلاميذ العميد لم يحضر للتهنئة، حضر فقط اثنان من الأصدقاء. فور صدور عدد «المصور»، تلقى رئيس تحرير المصور الراحل، أحمد بهاء الدين، اتصالًا من مكتب السيد رئيس الجمهورية، مفاده شكر الرئيس جمال عبدالناصر أن المجلة تذكرت هذه المناسبة واحتفلت بالدكتور طه، وفى الاتصال بدا أن هناك استياء رئاسيًّا من ذلك التجاهل للعميد.
كانت سنة ٦٤ قاسية على العميد، فيها رحل زميله فى مجمع اللغة وفى المجلس الأعلى للآداب والفنون، عباس العقاد، وكانت صداقتهما وطيدة، رغم شائعات البعض وأحاديث النميمة الثقافية عن أن الود كان مفقودًا بينهما، كان العقاد من رفاق الجيل، وقد رحلوا جميعًا، لطفى السيد وحسين هيكل وأحمد أمين، وقبلهم جميعًا الشيخ مصطفى عبدالرازق، لم يكن من تلك المجموعة على قيد الحياة سوى الشيخ على عبدالرازق.
فى السنة نفسها، تمت الإساءة إلى د. طه حسين باستغناء جريدة الجمهورية عنه. زعم رئيس التحرير
«ال...» أن ما يقدمه د. طه ليس بذى أهمية. كان رئيس التحرير متكئًا على المشير عبدالحكيم عامر، وهكذا لا يكفى طه حسين اسمه وقيمته، ولا أن الرئيس عبدالناصر بنفسه من الذين يقدرونه.
يلفت الانتباه أن العديد من الصحف والمطبوعات وقتها لم تحاول ولا سعت إلى استكتابه، رغم أن ذلك كان متاحًا لها. كان هناك فائض صفحات، وكانت لديهم ملاءة مالية، وكانوا بحاجة إلى قلم ذى ثقل تاريخى وأدبى.
الحديث هنا يمكن أن يتركز على الأستاذ هيكل، الذى سعى لاستقطاب كبار الكُتاب، لكنه تجاهل طه حسين، وهنا نكون بإزاء تساؤلات عديدة.
فى حوار «المصور» سنة ٦٤، ذكر العميد أنه بصدد كتابة الجزء الثالث من كتابه العظيم «الفتنة الكبرى»، ثم كرر القول فى مناسبات أخرى. فى حواره بالتلفزيون مع القديرة سميرة الكيلانى، ذكر أنه يريد استكمال «الفتنة الكبرى» ليصبح الكتاب أربعة أجزاء، وأن يواصل كتابه «الأيام» ليصير ثمانية أجزاء، ثم أعاد نفس الأمر فى الجلسة التلفزيونية مع عدد من كبار الكُتاب، مثل نجيب محفوظ ومحمود أمين العالِم وعبدالرحمن بدوى، والتى أعدها أنيس منصور، وأدارتها ليلى رستم.
كل هذا، ولم تتحرك دار نشر واحدة تطلب التعاقد معه أو أن يكون لها السبق فى النشر، ولا سعى إليه أى رئيس تحرير يطلب بعض الفصول لنشرها، على الأقل من باب الحماس والتقدير!.
فى فترات سابقة حين مر طه حسين بأزمة كتاب «فى الشعر الجاهلى»، سعت إليه مجلة الهلال ليكتب، فكانت «الأيام»، ولما نقله إسماعيل صدقى عنوة من عمادة كلية الآداب إلى وزارة المعارف كان كتابه «على هامش السيرة»، وحين خرج العقاد من السجن فى زمن حكومة إسماعيل صدقى طلبت إليه مجلة الاثنين أن يكتب لها فصولًا عن تجربته داخل الأسوار وفى الزنزانة، فكان كتابه عن «السدود والقيود». نعرف أن عددًا من كتب العقاد كانت من اقتراحات بعض المجلات والصحف عليه، مثل سارة.. فى بيتى.. رجال عرفتهم.. أنا، وهنا لابد من تذكر اسم الشاعر طاهر الطناحى، صديق العقاد، ومدير تحرير الهلال العتيد، إذ كان هو صاحب معظم هذه الاقتراحات، كان ذلك معتادًا فى الحياة الثقافية والصحفية، لم يقتصر على طه والعقاد فقط، فما الذى حدث سنة ٦٤؟، بعد فصل طه حسين من جريدة الجمهورية، ولم يعد أمامه منبر يطل منه على قرائه ومريديه، كانت كتبه تُعاد طباعتها بانتظام، بما يعنى أنه بمعيار السوق «بياع».
لماذا اختفت هذه المبادرات، ولماذا صارت المؤسسات الكبرى فى الصحافة والثقافة والنشر مجرد مستقبِل فقط؟!.
نستطيع أن نرصد عشرات المواقف والأحداث الكبرى منذ سنة ١٩٦٤، التى جرى فيها تجاهل وجود طه حسين، رغم أنه هو لم يتأخر لحظة عن هذا الوطن فى أى موقف صعب، لم يبخل على أى صحفى بموعد طلبه، لا فارق بين اسم كبير أو شاب مازال فى بداية الطريق.
هذا ليس موقفًا ولا تجاهلًا سياسيًّا، فالرجل كان موضع إكبار وتقدير من الرئاسة، يكفى أن الرئيس منحه قلادة النيل فى عيد العلم سنة ٦٤، هو موقف بيروقراطى فى المقام الأول.
البيروقراطية هى الأقوى والأقوى، وتعتقد البيروقراطية أن المواطن ملزم بأن يسعى ويحبو إليها، ثم تقرر هى ما إذا كانت تُحسن الاستقبال أم ترفض!. ينطبق هذا على أى مواطن، حتى لو كان وزير المعارف السابق، وفى عظمة وأهمية طه حسين.
فضلًا عن ذلك، كان قلم طه حسين ينحو دائمًا نحو التجديد، ويتمتع بعقلية نقدية، المؤسسات البيروقراطية تتخوف من الجديد والتجديد، هى مؤسسات «التقاليد».. محافظة جدًّا، تتحرك ببطء شديد، هى كذلك تتخوف، بل تشك فى أى إشارة نقدية، حتى لو كانت فى صلب الصالح العام، وحتى لو كان صاحبها أقوى داعم للدولة وللنظام السياسى، وهكذا كان د. طه حسين بعد ثورة 52.
ثقة وتقدير الرئيس لاسم وشخصية طه حسين لم يكونا فى صالحه لدى المؤسسات. بالمعيار البيروقراطى رجل بهذه الحيثية يتم النظر إليه بإكبار وتقدير.. أيقونة أو بركة، تلمسه من بعيد، أما التعامل المباشر معه فليس مفضلًا. إذا أغضبه شىء فقد يصل علمه إلى الرئيس، وقد يكون هناك آخرون فى الدولة- أجنحة النظام وقتها-لا يحبونه، لذا الابتعاد عنه أفضل وأكثر أمنًا، نحبه ونقدره من بعيد.
روى محمد حسنين هيكل، فى سلسلة حوارات مع الروائى يوسف القعيد- صدرت فى كتاب مستقل- أن كمال الملاخ أبلغه سنة ٦٩ أن طه حسين انتهى من كتابة جزء جديد من «الأيام»، فذهبا إليه فى منزله «رامتان» لنشره فى «الأهرام»، بعد أن سمع «طه» العرض، ضحك بعمق، أتصور أنه كان ضحك الألم، ذلك أن الكتاب صدر قبلها بحوالى عام فى بيروت، بعنوان: «مذكرات طه حسين».
كان معنى العرض أن اثنين من كبار الصحفيين لا يقرآن الجديد، ولا يتابعان ما يصدر، وأن الكتاب لم يُحدث الأثر المتوقع، مَن يقرأ ما ذكره «هيكل» ليوسف القعيد يشعر أن الرجل كان عاتبًا ومتألمًا من التجاهل الذى يلقاه منهما تحديدًا، أى من «الأهرام»، لا أظن أن إشارة العميد وعتابه الأليم فاتا على «هيكل». انتهت الزيارة، ولا أعرف لماذا لم يبادر «هيكل» ولا كمال الملاخ بطلب الجزء الرابع من «الأيام»، خاصة أن الجزء الثالث يتوقف عند عودته من فرنسا حاملًا الدكتوراه وطفلته الصغيرة، أما سنوات العشرينيات وما بعدها وصولًا إلى سنة ٥٢، بكل أزماتها وتحولاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية فكانت بحاجة إلى أن يكتبها، كان يمكن أن يقترحا عليه موضوعًا آخر للكتابة، وهذا معتاد فى الصحافة، أراه واجبًا مهنيًّا.
يبدو لى أنها كانت زيارة إبراء ذمة أمام الذات وإزاء الآخرين، أكثر منها زيارة عمل أو واجب مهنى. بالمعنى البسيط «عملنا اللى علينا.. زرناه فى البيت». ليس من اللائق صحفيًّا أن يزور صحفى مصدرًا مهمًّا ويعود خالى الوفاض. فى يوليو سنة ١٩٥٥، زار «هيكل» طه حسين، زيارة عادية، فوجد لديه الأب قنواتى وآخرين يتناقشون فى قضية الحب فى الأديان، لم يشارك فى النقاش، استمع فقط، وخرج ليكتب مقالًا عن تلك الزيارة، ونشره ضمن يوميات الأخبار.
الموقف الذى اتخذته معظم المؤسسات الرسمية من طه حسين فى سنواته الأخيرة لم يتغير إلى اليوم، الكراهية والمخاوف المؤسَّسية تُتوارث، أُضيف إليها كراهية وعداء اليمين الدينى له شخصيًّا، وبالمرة بعض «القومجيين»، الذين يتلامسون مع اليمين الدينى.