في يونيو ٢٠١٤، جرى انتخاب المشير عبدالفتاح السيسى رئيسًا للجمهورية وتسلم مهام منصبه من الرئيس عدلى منصور في حفل مهيب جرت وقائعه في قصر القبة.. فور توليه الرئاسة، اندفع عدد من الكتاب والصحفيين إلى إسداء النصح إلى القادم الجديد في قصر الاتحادية، بعض هذا النصح كان مباشرًا وأبويًا، وبعضه لم يكن نصحًا حقيقيًا، إذ لم يكن مبنيًا على دراسة معمقة للواقع المصرى أو مناقشة لبرنامج الرئيس وخططه المستقبلية كما طرحها في حواراته ولقاءاته، مثلًا شبكة الطرق الضخمة التي جرى تنفيذها، تحدث عنها إجمالًا في الحديث مع كل من لميس الحديدى وإبراهيم عيسى، وكان هناك خطاب التنصيب الذي ألقاه الرئيس في الحفل يوم ٨ يونيو ٢٠١٤، وحمل الأفكار العامة، ومِن ثَمَّ السياسات التي وعد بالسير عليها.. كان هناك كذلك خطاب الوداع الذي ألقاه المستشار الجليل الرئيس عدلى منصور وحمل رسائل واضحة ومحددة إلى الرئيس السيسى.
كانت النصائح المكتوبة في بعض المقالات تلخص جملة واحدة يمكن صياغتها على النحو التالى: «لا تَكُن حسنى مبارك». والحق أن ذلك النصح- يمكننا القول «التحذير»- كان يتجاهل معلومة لم تكن سرية وقتها، أن الرئيس الجديد هو نفسه صاحب التقرير الشهير إلى المشير محمد حسين طنطاوى، القائد العام للقوات المسلحة، الذي حذر فيه من أن منحنى الأمور في مصر سوف ينتهى إلى عواقب وخيمة إذا ظلت الأمور على ما هي عليه.. كان التقرير في النصف الأول من سنة٢٠١٠، حيث كانت مجموعة التوريث تمضى قدمًا بفظاظة شديدة واستهزاء عميق بمشاعر الملايين الرافضة مبدأ التوريث والكارهين بعمق الوريث.
بعد موجة النصائح الأولى، بدأ يتردد في الوسط الصحفى همسٌ بأن هناك زملاءً يحاولون الاقتراب من الرئيس الجديد ومن مؤسسة الرئاسة عمومًا، ولا بأس في ذلك، الاقتراب من مصادر المعلومات ليس معيبًا في حد ذاته، بل هو أقرب إلى الواجب المهنى بالنسبة للصحفى، لكن ما تردد وقتها أن هناك من لا يريدون الاقتراب فقط، بل يسعون أو يحاولون تكرار أو إحياء نموذج الأستاذ محمد حسنين هيكل والرئيس جمال عبدالناصر.. ثم نشط الخيال ببعض الزملاء إلى حد الإشارة بالاسم إلى (س أو ص أو ع) والقول إن هذا هو هيكل المرحلة القادمة، ثم صدرت إشارات ناعمة لكن صارمة من مؤسسة الرئاسة إلى أن التعامل مع الصحافة بابه مفتوح، لكن النموذج المتصور (ناصر- هيكل) ليس هناك استعداد رئاسى ولا رغبة في تكراره، فضلًا عن عدم الاحتياج إليه.
ويجب القول إن الوسط الصحفى والسياسى المصرى حتى سنة ٢٠١١ عاش أو عانى حالة يمكن أن نسميها «عقدة هيكل».. كان الرئيس السادات شخصيًا أكثر من حمل تلك العقدة وعبّر عنها بوضوح بعد إقالته لهيكل من مؤسسة الأهرام في فبراير ١٩٧٤، وكان يغضب من هيكل، فيهاجمه في خطاب عام، كما اتهم البعض هيكل بالإلحاد وبأن عبدالناصر قفل الصحافة عليه وأنه يتقاضى جنيهًا عن كل كلمة يكتبها تارة أخرى، في دعوة مباشرة للحقد، يبدو لى أن ذلك كان تعبيرا عن غيظ وحقد شخصى، أو رغبة في إثارة الصحفيين ضد زميلهم، ثم يطلب من رؤساء التحرير الهجوم على هيكل.. ولا يلبث الرئيس السادات أن يهدأ وتعود الأمور إلى مجاريها مع هيكل. كانت جلسة واحدة بينهما تذيب الجليد وتعود المشاعر الودودة. كانت السيدة جيهان السادات وكذلك المهندس سيد مرعى، رئيس مجلس الشعب وصهر السادات، يلعبان دور التهدئة بخصوص هيكل معه، فيعرض عليه أن يتولى وزارة الإعلام.. كان السادات يريد هيكل ويحتاج إليه قريبا منه، لكن خارج قلعته الأهرام، وكان هيكل لا يرتضى غيرها، فضلًا عن أنه دخل الوزارة من قبل ونجح في الإفلات منها ناجيًا ومعززًا ولم يكن على استعداد لخوض التجربة مرة أخرى، رفض العرض الوزارى الذي حمله إليه ممدوح سالم، رئيس الوزراء بتكليف من السادات، ليس رغبة في المزايدة على الرئيس كما كتب موسى صبرى، بل لأن قبول المنصب هذه المرة كان يعنى سحب صفة الصحفى والكاتب منه ليصبح مسؤولا كبيرا في الدولة «فقط».
كان السادات وهيكل يتفقان في عدة أمور، تحديدا فيما يكره ويرفض كل منهما، لكن يختلفان في حدة وطرق التعبير عن الكراهية، وكانا يتفقان في كثير من الأمور التي يفضلانها، لكن الاختلاف في طرق الوصول إليها والتعبير عنها. رفضا أو كرها معًا جماعة الاتحاد الاشتراكى وتعميق العلاقات مع الاتحاد السوفيتى، وفضّلا العلاقات مع الولايات المتحدة والسلام مع إسرائيل، كان الخلاف فقط في الوسائل وسرعة الإيقاع.. لذا فإن العلاقات بينهما ظلت تتأرجح، لم تصل إلى القطيعة إلا في سنة ١٩٨١، وكان من واجب السادات تجنب تلك اللحظة. حاول السادات بعد حرب أكتوبر تهشيم الظاهرة الهيكلية في الصحافة المصرية بأن أرسل محمد عبدالقادر حاتم شخصيًا ومعه على أمين إلى الأهرام، هما معًا خَلَفًا لهيكل، وكانت الخطوة تكشف تهورًا وعدم دراية بأوضاع مؤسسة صحفية مهمة كان هيكل «أبا روحيًا» في مؤسسته، ولم يكن مجرد رئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة. السادات نفسه تبين ذلك، لذا سارع إلى تهدئة الأمور، تراجع عن التهشيم، وحاول تفكيك ظاهرة هيكل، قَبِلَ بنصف هيكل، وقسّم المسألة بين موسى صبرى وأنيس منصور، فيندفع الأول إلى حملات عنيفة ضد هيكل حانقًا وكارهًا، أسف هو نفسه عليها في مرضه الأخير ونسب إليه كلمات كثيرة في هذا الصدد، توقف عندها مرة الأستاذ محمد العزبى في عموده اليومى بجريدة «الجمهورية».
الثانى- أي أنيس منصور- كان أذكى وأدهى، لم يهاجم هيكل بالاسم، وقال لزميلنا العزيز إبراهيم عبدالعزيز- وكان مقربًا إليه- إن السادات طلب منه مباشرة أكثر من مرة مهاجمة هيكل، لكنه لعلاقات إنسانية مع هيكل لم يفعل.
كان أنيس يرى نفسه فيلسوفًا وأديبًا ورحّالة عصره، أما الكتابة السياسية والاقتراب من الرئيس فهو شىء جيد وممتع، لنقل مسليًا، لكن ليس مقصودا لذاته ولا هو هدفه النهائى، فضلًا عن ذلك هو كدارس للفلسفة يدرك أن سقراط فيلسوف اليونان العظيم كان ناقدًا ومتسائلًا حول أدق الأمور في مدينته، وأفلاطون كان قريبًا من الحكم والحاكم في أثينا، وكذلك أرسطو معلم الإسكندر المقدونى، معلم وموجه، ليس أن يتلقى هو التعليمات والتوجيهات.. وهذا ما لم يكن ممكنًا للسادات أن يدركه ولا مبارك من بعده.
تابع جيدا ما كان يكتبه أنيس عن مبارك في وجوده، كان يكتب كمُوجّه: «الرئيس مرهق يجب أن يخرج في إجازة.. يجب أن يفعل كذا وكذا». في أحاديثه عن السادات يردد كثيرا: «قلت للرئيس.. قلت.. قلت». إنها مشاعر الفيلسوف وتصوراته لنفسه، المعلم والموجه أو المرشد، ولا نقول صاحب النصح.. الفارق كبير بين النصيحة والتوجيه.. «النصيحة» تكون عابرة وطارئة مرتبطة بأزمة أو موقف ما، وهى تلقى فَتُهمل أو يُؤخذ بها، وإذا أهملت فلأغراض التعليم.. و«التوجيه» فيه درجة من الإلزام ولا يُهمل حتى لو لم يتم الأخذ به، هو كذلك مستمر ودائم، فضلًا عن أن المعلم هنا يكون «فيلسوفًا»، أما النصيحة فيمكن أن تصدر عن أي شخص؛ لنلاحظ مثلًا صورته المفضلة وهو «يتمشّي» مع السادات، يبدو مرتديا ملابسه العادية وحذاؤه الضخم المعروف به، مشدود القامة، ينظر إلى الأمام، عيناه تحدقان في اللا شىء، بينما السادات منهمك في المشى، يبدو مستغرقا في الحديث، يحمل عصاه، حبيبات العرق تبدو على وجهه المرهق وجسده النحيف، أقرب إلى ناسك قديم في الصحراء.
قارن صورة أنيس هنا بما ترويه المصادر القديمة والحديثة عن المشاء الأعظم أفلاطون. ولعل هذا ما يفسر ترحيب أنيس واعتزازه، بل سعادته بالتمشية مع السادات، بينما اعتذر عنها موسى صبرى، لأنه- على حد تعبيره- لم يتصور نفسه يرتدى ملابس رياضية.
كثير من المهن تبدأ ممارستها بمحاولة إثبات الذات أو الوجود، ثم بالتنافس بين أبناء المهنة الواحدة في مرحلة لاحقة، حيث يتعلق الأمر ومدى النجاح بالقدرات والتميز الفردى، الموهبة والكاريزما الخاصة، تتحول الممارسة والمنافسة لدى البعض إلى نوع من الإحن والغيرة والحسد والحقد وربما الغل.. سوف نجد هذا في الطب والمحاماة ورجال البيزنس والصحافة والأدب والفن على مستوى العالم كله، يمكن أن نتبين ذلك في بعض منافسات كبار الأطباء في نفس التخصص. وأتصور أن السادات كان يدرك ذلك جيدًا بالنسبة للصحافة، حيث عمل بها فترة طويلة كاتبًا في مجلة «المصور»، ثم رئيسًا لتحرير جريدة «الجمهورية»، وعرف الكثير من خبايا الوسط الصحفى، فضلًا عن المنافسات والمناكفات بين بعض الصحفيين، وحاول إثارة الأمور على محمد حسنين هيكل، ودخل معه في معارك، كان من السهولة تجنبها، يفرج عن مصطفى أمين ويمنحه الكثير من الصلاحيات باعتباره خصما لدودًا لهيكل، لكن الأستاذ مصطفى كان مخضرمًا واستوعب تجربته، لم يدخل في نِزال مباشر مع هيكل، لكنه يخوض معركة ضد عبدالناصر وثورة يوليو، أي مع شرعية السادات نفسه، ثم يقترب من السادات شخصيا بالنقد حين هرول أعضاء مجلس الشعب من حزب مصر العربى الاشتراكى الذي ترأسه اللواء ممدوح سالم إلى الحزب الوطنى الديمقراطى الذي يؤسسه السادات نفسه، مما أغضبهم، فمنع مصطفى أمين من الكتابة ودخل في خصومة جديدة، وفقدت حججه الديمقراطية الكثير من وجاهتها.. كان مصطفى أمين كارهًا لعبدالناصر، كان عدوًا لدودًا للناصريين وكارهًا الاتحاد السوفيتى.. بتعبير السادات: لم يكن ناصريًا ولا شيوعيًا حاقدًا.. باختصار، لم يبلع مصطفى أمين الطُّعم وخاض المعركة لحساب قناعاته هو وليس وفق هوى السادات.
إحسان عبدالقدوس تجنب ذلك كله، علاقته مع هيكل قديمة ولم يعتد الخوض في هكذا معارك، أو اللا معارك، بل إساءات متبادلة.
جلال الحمامصى دخلها بطريقة أساءت للسادات شخصيًا ومسّته بشكل مباشر، وبدلًا من مهاجمة هيكل، تعرض للذمة المالية للرئيس عبدالناصر، فطالته نوبة غضب ساداتية.
الوحيد الذي ابتلع الطُّعم كاملًا برغبته كان الراحل موسى صبرى. من يقرأ كتابه «وثائق ١٥ مايو»- صدر سنة ١٩٧٦، ونشر قبلها على صفحات جريدة الأخبار- يندهش من درجة الحنق على هيكل، يخصص عدة فصول لهجائه، ويصر على الزجّ به ضمن مجموعة «مراكز القوى»، نشرت تلك الفصول في الصفحة الأولى بـ«الأخبار».. وفى كتابه عن السادات يمكن أن نتبين سبب ذلك الحنق، أمور شخصية في النهاية.
هيكل الذي كان يردد دائما أنه لا يقرأ الهجوم عليه ولا يهتم أو يعتد به، فضلًا عن أن يرد عليه، اعترف في مقدمة إحدى طبعات كتابه «حديث المبادرة»، بأن تلك الحملة آلمته كثيرًا، خاصة مانشيت الأخبار، وكان عنه هو وحده، بكلمة واحدة «الكذاب»، خاصة حين حمل ابنه الصغير إليه ذلك العدد قبل أن يذهب إلى المدرسة متسائلا والدموع في عينيه، جاء هذا الاعتراف بعد مضى السنوات والعقود، وكان الجميع تقريبًا في ذمة الله تعالى.
باختصار، فشلت نظرية السادات في «نصف هيكل»، أو هيكل مقسوم على اثنين: موسى صبرى وأنيس منصور. كانت الحملات الضارية التي تعرض لها السادات بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل وحصاره سياسيًا وردود فعله الحادة والعنيفة قد أكدت افتقاره إلى جهاز إعلامى قوى، ارتضى هو «نصف هيكل»، لكنه لحظة الأزمة لم يكن معه عُشر هيكل.
الواقع أنه لم يفشل فقط، بل نقل هيكل من حالة خاصة إلى أن يصبح أسطورة بالمعنى الكامل.
أسطورة هيكل سياسيًا لم يصنعها جمال عبدالناصر، صنعها أنور السادات. رحم الله الجميع.
الحديث ممتد..