توقيت القاهرة المحلي 10:28:37 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ثقافة الفوضى

  مصر اليوم -

ثقافة الفوضى

بقلم - حلمي النمنم

منذ منتصف فبراير ٢٠١١، وتجاوبًا مع لحظة مغادرة الرئيس مبارك موقعه بكل دراميته وسيادة حالة عامة من التفاؤل والشعور بالإنجاز، تولدت رغبة فى تنشيط العقل المصرى والذاكرة الثقافية بكتابات وإصدارات سابقة تعزف على تعزيز الوعى بالتاريخ وكفاح المصريين فى العصر الحديث.

وهكذا تبنت دار الكتب المصرية- وقتها كان د. صابر عرب يتولى رئاسة الدار- نشر سلسلة كتب بعنوان «مصر الثورة»، ضمت عددًا من العناوين المهمة؛ مثل كتاب رفاعة الطهطاوى «تخليص الإبريز» وكتاب حسين فوزى «سندباد مصرى» وكتاب صبحى وحيدة «فى أصول المسألة المصرية» وكتاب جمال حمدان «شخصية مصر»- النسخة الوسطى- وغيرها.

وطرحت بأسعار زهيدة جدًا ونفد معظمها، وتنافست مؤسسات وزارة الثقافة فى إصدارات على هذا النحو، خاصة حين تولى د.عماد أبوغازى الوزارة فى حكومة د.عصام شرف، وكان حظ كتاب د. طه حسين «مستقبل الثقافة فى مصر» وافرا، صدرت عدة طبعات منه فى وقت واحد، ولم تتأخر المؤسسات الصحفية (القومية) ودور النشر الخاصة كذلك فى هذا الجانب.

كانت هناك رغبة فى تقديم ما اتفق ثقافيا على أنه أعمال تأسيسية فى ثقافتنا المعاصرة من مختلف التيارات الوطنية والفكرية.

خارج نطاق نشاط هذه الهيئات والمؤسسات انتشرت فى القاهرة، على الأرصفة وفى محيط ميدان التحرير خاصةً، عدة «فرشات» بيع كتب، صدرت فى طبعات جديدة، تصوير عن طبعات سابقة، فيما بات يعرف فى مجال النشر بعملية تزوير الكتب والتى اتسع نطاقها بعد سنة ٢٠١١، عناوين الكتب كانت تستدعى التوقف، مثلًا عدة طبعات بأحجام وقطع مختلف، من كتاب سيد قطب «معالم فى الطريق»، طبع خارج القاهرة.

مدون عليه أنه أول طبعة رسمية من الكتاب، أى حصل على رقم إيداع من دار الكتب، ولم يكن ذلك دقيقًا، الكتاب يمثل خلاصة أفكار قطب فى تكفير المجتمع كله، واتهام التاريخ الإسلامى والحضارة العربية والإسلامية بالجاهلية.

ومن بين مؤلفات الشيخ محمد الغزالى الغزيرة، على مدى أكثر من نصف قرن، تم التركيز على عنوانين فقط، الأول بعنوان «قذائف الحق»، وهو كتاب يعود إلى فترة حكم الرئيس السادات وبه بعض صفحات كتبت وقت الاحتدام الطائفى وتنطوى على تعريض بالبابا شنودة.

الثانى كتاب «ظلام من الغرب» وبه انتقادات حادة لما يصلنا من الحضارة الغربية، هذان الكتابان كان الشيخ الغزالى نفسه توقف فى سنواته الأخيرة عن إعادة نشرهما، وراح يقدم اجتهادات جديدة أكثر رحابة وتسامحًا، فضلا عن أن بعض مؤلفاته الأخيرة تفيد أنه أعاد النظر فى كثير مما ورد فى الكتابين، خاصة كتاب القذائف.

وكان للدكتور مصطفى محمود نصيب، فى تلك الموجة، لكن بكتاب تبرأ منه وأسقطه من قائمة أعماله، ولم يكن يحب أن يذكره أحد به وهو كتاب «الله والإنسان»، الذى صدر فى منتصف الخمسينيات واتهم بسببه بالإلحاد، حاولت ذات مرة فى مكتبة الإسكندرية، وكان هو ضيفًا عليها، أن أتوقف معه عند معركة ذلك الكتاب فابتسم ولم يرد، رغم أننا تحدثنا فى عديد من الأمور.

الواقع أن الكتاب أقرب إلى خواطر فى الحياة، تقوم على خليط من فهم متعجل ومبتسر لبعض مقولات الشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى وغيره من رموز التصوف الإسلامى، مع بعض مفاهيم الفلسفة الوجودية كما قدمها د.عبد الرحمن بدوى وأنيس منصور وليس من منابعها الأولى. وابن عربى بحر زاخر من المعرفة والوجد، يحتاج تعمقًا وليس مرورا عابرا، والوجودية كذلك لها عدة أوجه.

الطريف أن الطبعات الجديدة كانت تصويرًا حرفيًا من الطبعة القديمة، حتى الغلاف نفسه ورقم الإيداع القديم، استفسرت وقتها من القائمين على إعادة نشر كتب الراحل د. مصطفى حول تلك الطبعات فأكدوا لى عدم مسؤوليتهم عنها، وأن أحدا لم يستأذنهم فى ذلك. كان الكتاب قد صودر وقت أن صدر سنة ١٩٥٥-وأقر مؤلفه المصادرة، ثم أصدر عدة عناوين تفيد تراجعه عن كل ما اتهم به كتاب «الله والإنسان».

إلى جوار تلك العناوين امتلأت «فرشات الكتب» بعدة طبعات من كتاب هتلر «كفاحى»، وكان نشر كتاب هتلر تحديدًا مستفزًّا ومريبًا بالفعل، ذلك أن أدولف هتلر بتجربته البشعة، ليس جزءا من تاريخنا الوطنى ولا من ثقافتنا، وهناك العديد من الكتابات أدانته وقت أن كان حديث العالم، كتاب عباس العقاد «هتلر فى الميزان» نموذجا، وهو حالة تدرس فى الجنون الذى يقود أمة بأكملها إلى الانتحار ويمكن أن يدمر الإنسانية فى طريقه.

دعنا الآن مما انطوت عليه معظم هذه الطبعات من العبث بالملكية الفكرية وإهدار الحقوق الأدبية والمادية للمؤلفين وللناشرين، ولكن كذلك العبث بأدبيات وتقاليد صناعة النشر، فى بلدٍ رائد فعليًا فى مجال الطباعة والنشر.

من تلك الأدبيات أن يصدر الكتاب عن دار نشر مشهرة قانونيًا ومعروفة، حتى لو لم تكن مشهورة، بعض تلك الكتب كانت تصدر دون إشارة أو ذكر للناشر، وفى العادة حين يتم إعادة إصدار كتاب قديم ومثير أو أحدث أزمة ما وقت إصداره الأول، أن يتم إعداد مقدمة تشرح سبب إعادة النشر وأهمية الكتاب والدور المتوقع من إعادة إصداره.

وقد يكون فيها تفنيد أو تصويب لبعض ما ورد به أو ما جد فى مجاله بعد الإصدار الأول، يعد هذه المقدمة ناقد أو كاتب متخصص فى الموضوع، أو كلمة تعبر عن الناشر نفسه، أما أن يصدر هكذا وكأنه منشور سرى أو نبت شيطانى فذلك معيب. والمفترض أن تتولى شرطة المصنفات الفنية هذا الأمر وتحيل كل هذه المخالفات إلى النيابة العامة، لكن الشرطة يومذاك كانت فى غاية الضعف.

تلك العناوين مجتمعة، بالإضافة إلى غيرها من عناوين أخرى مشابهة، صدرت على هذا النحو، ولا يمكن هنا أن نفهم الأمر على أنه حال من حرية النشر وتعدد الآراء والأفكار، ولا أنه كما تصور بعض زملائنا وقتها رغبة فى إبراز كل الممنوعات، ذلك أن معظم هذه الكتب لم تكن تنشر بسبب منع قانونى أو قضائى ولكن لأن المجتمع والعقل الجمعى تجاوزها، وبات كل منها تعبيرًا عن أزمة مرت بنا فى لحظات عاصفة وطنيًا واجتماعيًا.

إعادة النشر بذلك التواتر والزخم، تضعنا أمام خيوط عامة، يبدو وأن هناك مخرجًا ما، يحركها ويريد خلق مناخ واصطناع حالة فكرية بعينها، على النحو التالى:

أولا: التطرف فى مختلف الاتجاهات، التشدد الدينى فى جانب وربما الانخلاع من الدين كله فى جانب آخر، والتطرف فى الاتجاه العرقى والجنسى، وهكذا.

ثانيًا: بناء مناخ ثقافى يقوم على رفض الآخر والاختلاف، الآخر فى المجتمع، طائفيًا وعرقيًا.

ثالثا: الرفض هنا، ليس رفضًا نظريًا أو فلسفيا فقط، بل هو يتحول إلى سلوك عملى فى التاريخ، كتاب المعالم كان فاتحة ومانيفستو جماعات التكفير والقتل فى عالمنا العربى والإسلامى، كتاب «المعالم»، هو الوحيد بين تلك العناوين الذى نشر بمقدمة تمجد الكتاب ومؤلفه. «القذائف» كان تذكيرا بسنوات السبعينيات وما عرفناه من احتدام طائفى هدد بالفعل سلام المجتمع المصرى، أما تجربة هتلر فيكفى منها المحرقة (الهولوكوست) ومحاولة إبادة الغجر، وكل من ليس آريا.

وكان واضحا فى الاختيارات أنها كلها لمؤلفين رحلوا عن عالمنا، أى لن يخرج أحدهم ليقاضى من قام بذلك أو يصدر بيانًا يشوش على العملية برمتها، كان هناك الورثة، وهم عادةً لا يتابعون ولا يهتمون، الفهلوة كانت حاضرة بقوة.

هذه الاختيارات تكشف أن هناك عقلًا رأى استغلال لحظة بدت ثورية تماما فى أن يقود المجتمع ونهرول نحو الفوضى والاحتراب الأهلى والإنسانى. وهى دائرة من العدمية قد نرى أولها، لكن لا يعلم آخرها إلا الله.

عديد من المجتمعات المحيطة بنا دخل- بكل أسى- تلك الدائرة المميتة. الأفكار لا تطرح فى الفراغ ولا تقدم لذاتها فقط، ولا من باب الرفاهية النظرية، إنها تطرح على المجتمع والأفراد فيتفاعلوا معها ويتأثروا بها سلبًا أو إيجابا، حتى لو تأخر ظهور ذلك التأثر.

وهناك من اعتبر وقتها أن الثورة هى تحطيم وتدمير كل شىء قائم بالفعل، نظم وقوانين وتشريعات والأدبيات التى تكونت فى المجتمع عبر قرون وأجيال وتراكم تاريخى. إسقاط قانون وسن آخر شىء، والخروج على القانون شىء آخر. سن قانون أمر، والجريمة أمر مختلف.

الثورة غير الهدم، وليست تحطيم المجتمع وإشاعة الفوضى والإرهاب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثقافة الفوضى ثقافة الفوضى



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:17 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان
  مصر اليوم - غضب صلاح من بطء مفاوضات ليفربول واهتمام من باريس سان جيرمان

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين

GMT 11:46 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

جوارديولا يهنئ ليفربول بـ كأس الدوري الإنجليزي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon