فى ذروة أحداث ثورة سنة ١٩١٩، هبّت مظاهرة وطنية كبرى أمام جامع الحسين، شارك فيها كثير من أهالى الجمالية والمناطق المجاورة، فضلًا عن أعداد من الشباب تلاميذ المدارس العليا، وقتها كانت المساحة بين الحسين والأزهر خالية، لم يكن مبنى المشيخة القديم قد أُقيم، ومن ثَمَّ كانت المظاهرة مرشحة لأن تكبر إذا خرج إليها، والتحم معها طلاب الأزهر وسكان الحوارى والأرباع المحيطة. مظاهرات عموم المواطنين وأبناء البلد تختلف فى هتافاتها ومساراتها عن تلك التى يُحركها المثقفون والسياسيون، وهذا ما أصاب الإنجليز بالتوتر والقلق، فحشدوا قوة ضخمة، بدأ الجنود البريطانيون بإطلاق الرصاص، ويبدو أن الطلقات قُصد بها، فى المقام الأول، التخويف والترويع، إذ أُطلقت فوق رؤوس المتظاهرين بمسافة، وهذا ما جعل عددًا من رصاصات الجنود تصيب حائط المسجد. إحدى الطلقات سقطت داخل المسجد. قادة الثورة والجماهير أمسكوا بالواقعة، وتنادوا للدفاع عن بيت الله وعن اسم حفيد رسول الله، «ص».. صاحوا: «مدددد يا حسين»، حدثنا عبدالرحمن الرافعى وكذا الشيخ عبدالوهاب النجار فى سيرته عن تلك المظاهرة.
بمجرد اشتعال الموقف على هذا النحو، وتناقُل خبر إطلاق الرصاص على المسجد، تحول عند البعض إلى أنهم أحرقوا المسجد، واقتحموه بأحذيتهم وسلاحهم، فأصدر المعتمد البريطانى، رغم ما عُرف به من صلف، بيانًا يعتذر فيه عن إصابات الرصاصات للمسجد، ويؤكد أنها ليست مقصودة، وأنهم يحترمون ويقدرون دُور العبادة، ولا يمكن لهم أن يمسوها.
قائد القوات البريطانية فى مصر، «قوات الاحتلال»، أصدر هو الآخر بيانًا يؤكد فيه ما ورد فى بيان المعتمد، ويدافع عن سمعة قواته والجيش الذى ينتمى إليه، ويوضح أنه لا يعتدى على بيت من بيوت الله، تم توزيع البيانين بسرعة على مندوبى الصحف لتعميم النشر، لم تكن لدينا وقتها إذاعة.
بالتأكيد، كان فى الذاكرة الاستعمارية البريطانية جريمة نابليون فى مصر حين أمر قواته باقتحام الأزهر الشريف وضربه بالمدافع، فسقط أخلاقيًّا وحضاريًّا، وقبل كل ذلك سياسيًّا.
فى حالة نابليون، لم تمنع جلافة تصرفه المصريين من أن يثوروا، للمرة الثانية، ضد الاحتلال- يسمى تاريخيًّا الحملة الفرنسية- بصورة أعنف وأشد من الأولى، رغم أن نابليون كان قد غادر مصر سرًّا، وعُين مكانه جنرال «كليبر»، الذى كان ميّالًا إلى التهدئة، لكنه كان بربريًّا فى قمع الثورة الثانية، أحرق حى بولاق بأكمله، وكان كل ذلك دافعًا للشاب سليمان الحلبى إلى أن يقوم باغتيال الجنرال كليبر. من مفارقات التاريخ أن أمر الخنجر الذى نفذ به العملية والاستعداد لها والتكليف بها كان فى غزة، التى انطلق منها إلى القاهرة مع عدد من الرفاق «الغزيين» بتعبير الجبرتى، مؤرخنا العظيم، وكانوا جميعًا من حلقة الشيخ عبدالله الشرقاوى، شيخ الأزهر.
الأمر المؤكد أن نابليون حاول التلاعب بالعواطف الدينية للمصريين، منذ بيانه الأول الذى صاغه وطبعه قبل أن تطأ قدمه أرض مصر، والذى أكد فيه أنه يؤمن بالله الواحد وبالنبى محمد، «ص»، رسولًا مثل المصريين تمامًا، وكان طائفيًّا أيضًا، حيث راح يعلن عداءه للبابوية فى الفاتيكان.
فى حالة مظاهرة الحسين سنة ١٩، أدى بيان المعتمد وقائد القوات إلى تراجع القلق من أن يكون هناك بُعد دينى لدى الاحتلال فى التعامل مع الحالة المصرية برمتها، كما تلاشت المخاوف من أن يكون هناك استهداف للمساجد ودُور العبادة، خاصة تلك التى تحمل رمزية واعتزازًا خاصًّا لدى عموم المواطنين، انعكس ذلك كله على الثورة، وظلت وطنية خالصة، فى منجاة من الطائفية البغيضة أو كراهية الغرب بالمطلق، باختصار حافظت الثورة على وجهيها الوطنى والمدنى معًا.
محتل على هذا النحو من الطبيعى أن يكون خصومه والثائرون عليه هم سعد زغلول وبقية زملائه من أعضاء الوفد المصرى: عدلى يكن وأحمد لطفى السيد وعبدالعزيز فهمى وعلى شعراوى وحمد الباسل وغيرهم، وأن تكون الثورة على نهجهم.
لا مفاضلة بين احتلال وآخر، لا تحسين لاحتلال وتقبيح لآخر، يظل الاحتلال احتلالًا، اعتداء على سيادة الوطن وامتهان كرامة وإنسانية شعب بأكمله، لكن لا بد من فهم طبيعة وهوية كل احتلال.
فى فلسطين، الأمر يختلف، حين احتل البريطانيون مصر، زعموا أنهم جاءوا لحفظ الأمن، وسوف يخرجون خلال عامين، ثم ماطلوا، لكنهم لم ينكروا يومًا حق مصر فى الاستقلال وحق المصريين فى التحرر، ويتعللون بأن الظروف الدولية غير مناسبة، وأحيانًا الظروف المحلية، وهكذا طوال ثلاثة أرباع قرن.
الاحتلال الإسرائيلى لا يُعد نفسه احتلالًا، إذ يرى الصهيونية «حركة تحرر قومى»، ويرى الفلسطينى مغتصبًا ودخيلًا!!!!!، هو كذلك لا يعبأ ولا يحترم المقدسات فى فلسطين. هناك تعمد إهانة المشاعر بالاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى (تحديدًا) والمساس بقدسيته وحرمته، يكفى أن تقتحم المسجد قوة مسلحة لا لشىء سوى الاستعراض وتعمد الإهانة، كأن يذهب وزير فى الحكومة الإسرائيلية إلى المسجد، فيدخل بحراسته وجحافل لتأمينه داخل المصلى، مرات عديدة ومتكررة للمساس بالمسجد، دون أى مراعاة لرمزيته وقدسيته لدى مئات الملايين حول العالم، بل مليار ونصف المليار، وبلغ التدليل الدولى والغربى لإسرائيل حد غض الطرف عن ذلك كله، بل اعتباره شأنًا يوميًّا، خاصًّا بالحكومة الإسرائيلية. أحد شروط المدنية والعلمانية هو احترام دُور العبادة والرموز الدينية والمقدسة لدى أتباعها، لنتذكر كيف غضب العالم وغضبنا نحن أيضًا حين حاولت جماعة طالبان فى أفغانستان تدمير تمثالى بوذا فى وادى باميان، (فبراير ٢٠٠١)، فضيلة مفتى جمهورية مصر تدخل وقتها بنفسه لوقف تلك الجريمة، فضيلة الشيخ نصر فريد واصل، تحركت اليونسكو، وعبّر قادة العالم عن استيائهم وغضبهم، لكن مع اليمين الإسرائيلى هناك غض للطرف تمامًا.
هنا لا ينبغى أن نندهش من انتعاش التيارات الأصولية المتشددة فى المنطقة. الأرض الخصبة موجودة، وكل منها يزعم وصلًا مع القدس، نعرف أن كثيرًا من ذلك ادعاء ورغبة فى اجتذاب مشاعر المواطنين وملايين الجنيهات أيضًا، لكن فى الداخل الفلسطينى الأمر جد مختلف، حيث المعاناة مع الاحتلال ليست يومية، بل لحظية، وتعمد الإهانة بات سلوكًا عاديًّا، وقد جرب الفلسطينيون الكثير من أشكال النضال: النضال السلمى عبر انتفاضة الحجارة، ردّت إسرائيل باغتيال خليل الوزير، صاحب الفكرة. ذهبوا إلى أوسلو، فعطّلت إسرائيل المشروع، وعرقلت السلطة الوطنية، هنا لا غرابة أن تتركز مقاومة الاحتلال فى فصائل الجهاد وحماس وغيرهما، هم جميعًا لون واحد، وإن اختلفت التفاصيل لدى كل منهم، لا غرابة كذلك أن يشحب دور اليسار النضالى، نجحت العولمة الأمريكية فى ضرب اليسار حول العالم مع انهيار الاتحاد السوفيتى، كما سخرت وأزْرَت بالاتجاهات الوطنية والقومية فى المنطقة، وهكذا لم يبقَ على الساحة سوى دعاة العولمة والتيارات الدينية، يلتقون ويتشابهون كثيرًا ويختلفون فى بعض التفاصيل. التقوا وتكاملوا معًا فى مشروع «الربيع العربى» لتدمير دول عربية بعينها، وتبين أن هدف المشروع البعيد إسقاط القضية الفلسطينية تمامًا من الوعى والذاكرة، ومن ثَمَّ الاهتمام، والحل تحويل إسقاط الأنظمة والدول إلى أن يكون القضية المركزية الأولى والوحيدة فى عالمنا العربى، ربما هذا ما جعل حماس تفيق من عبث ٢٠١١ وما بعده حتى يستريح الجميع. حماس بكل ما فيها نتاج متوقع للاحتلال الإسرائيلى وللنظام العالمى (الجديد).
هنا كذلك ليس مفاجئًا أن تحمل عملية الرد اسم «طوفان الأقصى»، رغم تباعد الدلالة والرمز بين الكلمتين، الطوفان يعود إلى الطوفان، الذى أغرق الجميع، وأزاح كل مَن لم يكن مع نبى الله نوح. فى التراث الإسلامى يُذكر دعاء نوح على قومه بالهلاك للتذكير بسماحة الإسلام وحب رسول الله، محمد، (عليه الصلاة والسلام)، لقومه، رغم ما تعرض له من كيد وإيذاء معنوى ومادى، حيث لم يطلب من الله أن يُهلكهم، بل تحمل وصبر، ودعا الله لهم بالهداية، وكان دائمًا يلتمس الأعذار لهم، مثل أنهم لا يعلمون، ولما انتصر عليهم، سامحهم، وأطلقهم بلا قيد أو شرط، حتى لو كان اعتناق الدين، لكن بإزاء الاحتلال قفز الطوفان إلى الذاكرة والاستعمال اليومى.
أما الأقصى- المسجد- فهو رمز الصفاء النفسى والإيمان والروحانية الخالصة، مسرى رسول الله، «ص»، جعل الله الأرض مباركة من حوله، لكن هذا ما جناه الاحتلال على نفسه.. على مواطنيه سواء كانوا مدنيين أو عسكريين، كذلك على المواطنين الخاضعين للاحتلال «الفلسطينيين»، وعلينا جميعًا نحن أبناء المنطقة.
الكارثة قابلة للتكرار ما بقى هناك وطن وبلد محتل.