توقيت القاهرة المحلي 16:08:40 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مجدى يعقوب.. الإنسان أولًا

  مصر اليوم -

مجدى يعقوب الإنسان أولًا

بقلم - حلمي النمنم

يغادر البعض نهائيًّا إلى أوروبا أو الولايات المتحدة، يمكن أن نسميها هجرة إرادية.. أتحدث تحديدًا عما بات يدخل فى مسمى «هجرة العقول»، فى تسمية أخرى «نزيف العقول»، حيث يفل المتميزون علميًا وفكريًا إلى الغرب، وبعد سنوات يتذكر أحدهم بلاده، خاصة بعد أن يكون لمع هناك وحقق نجاحًا وتميزًا كبيرًا، فيعود زائرًا، ثم لا يلبث أن يتحدث عن دوافعه للمغادرة ويشير إلى أنه خرج «مضطرًا» ويسمعنا حكايات عن اضطهاد ما وقع عليه، اضطهاد سياسى أو اضطهاد بيروقراطى، أحدهم ذكر كثيرًا أنه تم تعيينه فى شبابه مدرسًا بإحدى المحافظات النائية فقرر الهجرة نهائيًّا إلى بلاد العم سام، ولنا أن نسأل: وما الإهانة فى أن تذهب إلى مدرسة فى مدينة نائية تعلم أبناءها، أليس ذلك واجبًا وطنيًّا واجتماعيًّا؟ ألم يكن تعليمك بالمجان تحملته الدولة من أعباء هؤلاء البسطاء الذين تضن أن تقدم دورًا لهم؟ وهل كان مقررًا أن تقضى عمرك العملى هناك أم أنها كانت فترة مؤقتة أو لم تكن أنت يومًا تلميذًا فى القرية قام بتعليمك معلم قدم إليك من مكان بعيد أيضًا؟!.

هذا فقط مجرد نموذج من «الاضطهاد المتخيل»، فإذا كان من هاجر قبطيًّا يصبح الأقرب إلى التخيل، حتى لو لم يتم التصريح بذلك، أنه الاضطهاد الطائفى أو عدم عدالة الفرص المتاحة وقلتها.

يبدو لى أن تلك الأحاديث تكون مبررًا فقط أو أنها رد مضمر على اتهام صامت أو شعور دفين بأنه قد هرب من هذا البلد بحثًا عن طموح أو حلم خاص وأنه فى ذلك كان «أنانيًّا» أو أى معنى آخر أقسى من ذلك. ربما يزداد ذلك الإحساس خاصة إذا ما استقبل الزائر أو العائد بود صادق وحب حقيقى وكذلك بكرم بالغ على عادتنا.

أحيانًا لا يقول المهاجر شيئًا من ذلك ولكن يتطوع بعضنا باختراع حكايات عن اضطهاد ما أو سوء تقدير من المسؤولين لتميز وموهبة المهاجر لتفسير أسباب المغادرة، من هؤلاء د. مجدى يعقوب، الذى سارع البعض إلى تخيل أنه غادر فى شبابه إلى بريطانيا لأسباب تتعلق باضطهاد طائفى، البعض الآخر علق الهجرة فى رقبة «اشتراكية عبدالناصر»، رغم أن تلك الاشتراكية لم يبدأ العمل بها والإعلان عنها إلا بعد عام من سفر مجدى يعقوب.

حين أصدر د.علاء الأسوانى روايته «شيكاغو » سنة ٢٠٠٧، وفيها طبيب مصرى (قبطى) هاجر إلى شيكاغو، إثر مضايقات عدة تعرض لها فى دراسته لكونه قبطيًا، ذهب بعض القراء الذين يريدون إسقاط أبطال وأحداث كل رواية حرفيًّا على الواقع إلى أن الطبيب فى الرواية هو د. مجدى يعقوب، خاصة أن د. يعقوب كان قد انتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة وعمل فعلًا لمدة عام فى مدينة «شيكاغو»، بكلية الطب مثل بطل الرواية.

نفى الروائى علاء الأسوانى وقتها ذلك بوضوح تام، لكن التصور السائد لم يختف، خاصة أن المناخ العام السائد وقتها كان يسمح بمثل هذه التفسيرات.

فى مذكراته التى صدرت مؤخرًا عن الدار المصرية/اللبنانية، بعنوان «جراح خارج السرب»، يقول د. يعقوب «تشيع قصة بأن مجدى يعقوب رحل فى ضيق، بسبب كونه قبطيًا وذلك ببساطة غير صحيح»، ثم يضيف «رحلت لأسباب إيجابية، رحلت بحثًا عن فرص فى العلم والطب السريرى، ورغبة فى أن أخدم الناس فى شتى أرجاء العالم».

تخرج مجدى يعقوب فى كلية طب القصر العينى وكان من العشرة الأوائل، اهتمت الصحف بالنتيجة وكرم الرئيس عبدالناصر الطلاب المتفوقين، صيف سنة ١٩٥٧، كان هو أحدهم، ظلت صورة التكريم معلقة فى منزل العائلة، كان قد التحق بالكلية سنة ١٩٥١، وبعد تكريم الرئيس له ظل يعمل ثلاث سنوات فى مستشفى القصر العينى.

ما زال يحمل ذكريات جيدة عن أيام الدراسة بالجامعة، يتذكر عددًا من أساتذته، خاصة أستاذ الكيمياء الحيوية د. على حسن، يقول عنه «كان مبهرًا لنا، بت أعرف أن الطب يتصل بالمجتمعات مثلما يتصل بالعلم والكتب، وحُفر ذلك فى عقلى».

كان أستاذ الكيمياء الحيوية لا يكتفى فقط بالمراجع العلمية وتجارب المعمل، لكنه كان يزور أبناء القرى خارج القاهرة ويدرس أنماطهم الغذائية ويبحث فى النواقص الغذائية التى تنعكس على صحتهم أو تؤدى إلى إصابتهم بالأمراض، ويشرح ذلك لتلاميذه، استمر فى هذا البحث سنوات طويلة، المعنى هنا أن الأستاذ-الأستاذ الحق- لا يتوقف عن البحث ولا يصير مع تلاميذه مجرد سلطة علمية فى يده درجات الامتحان.

كان الجو فى كلية الطب مفعمًا بالدراسة الجادة والحياة الممتعة، اشترك مجدى فى جمعية الموسيقى الكلاسيكية بالكلية، فاستمع إلى مقطوعات موسيقية لموتسارت وغيره مع شروح لها من زملاء له فى الكلية، كانت جمعية الموسيقى حديثة التكوين وقتها، وكان يحضر بعض حفلات فى دار الأوبرا بمقرها القديم وكانت التذكرة بقروش قليلة، فيما بعد كان يفضل الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية وهو يجرى العمليات الجراحية، بما يبعد شبح التوتر والقلق من غرفة العمليات.

كان يبيت فى المستشفى، يتسلم المناوبات الليلية، فى السنة الأولى للتخرج كان يشارك أساتذته العمليات الجراحية هو وزملاؤه- الخريجون الجدد- فى السنة التالية كان كل منهم يجرى الجراحة منفردًا.

كان شابًا يفتح له المستقبل طريقًا مفروشًا بالورود، كطبيب شاب.

فى ذلك الزمان كان حلم الخمسة عين الخاص بالأطباء موضع تقدير المجتمع وربما حسد البعض، المال والشهرة والوجاهة (عيادة/عربية/عمارة/عزبة/عروس جميلة)، فكيف يفكر شاب فى مثل هذه الظروف، أمامه الخمسة عين كاملة وقد يزيد عددها فى الرحيل والخروج من هذا السياق كله.

الحق أن الأيام أثبتت أنه لم يكن مهتمًا إلا بعين واحدة ليست ضمن الخمسة، وهى عين «العلم».

البداية فى الحصول على الزمالة فى الجراحة من كلية الجراحين الملكية فى أدنبرة، وسافر إلى اسكتلندا، وبدأ يتابع عمل سير راسل بروك وكان بالنسبة له «شخصية ملهمة»، جراح نادر، قبل الزمالة كان مجدى زار السويد والدنمارك وتابع جراحة القلب فى كل من البلدين.

يفاجئنا مجدى يعقوب بأنه حين سافر إلى بريطانيا للزمالة كان أول ما أثار إعجابه هناك هو «البرود» الإنجليزى، كان مجدى يدخن الغليون، وذات مرة استوقف أحد المارة يسأله عن الطريق ونسى الغليون فى جيب المعطف وهو مشتعل، تحدث إليه المواطن الإنجليزى بهدوء شديد «إنك تحترق»، راح مجدى يستوضحه فرد الآخر بنفس البرود إنك تحترق ثم راح يشير إلى الدخان الذى راح يتصاعد من جيب المعطف، هذا البرود الشديد أعجبه، لم يصرخ الرجل حريقة.. حريقة.

كان ذلك فى العام ١٩٥٩، فاتح والده دكتور حبيب برغبته فى السفر، لكن الوالد رفض بشدة، يصف هو والده بأنه كان «أبًا مصريًا نمطيًا».. أمام ابنه مستقبل مشرق فى الجامعة وفى المجتمع فلماذا يترك الأسرة والبلد؟! ثم حدث أن أصيب والده بأزمة صحية، سكتة قلبية حادة مصحوبة بفشل كلوى، كان الوالد مصابًا بالسكرى ولم تفلح محاولات إنقاذه، يقول «لم نكن نحظى فى تلك الأيام بشىء، لا بالمعرفة ولا بالأدوات. وبالنسبة لشخص راغب فى أن يكون جراح قلب وأوعية دموية، كان ذلك أمرًا مدمرًا»، هنا قرر أن يسافر بالمخالفة لوصية والده.

الرحيل لأسباب إيجابية- كما قال هو- جعله يغادر بلا مرارة وبلا حنق أو غضب، جاه الدولة أو المجتمع، ولا إحن تجاه المجتمع العلمى مع الجامعة والزملاء. هناك من يغادر ولديه الرغبة فى الانتقام والثأر، وهناك من يكون محملًا بقدر من الكراهية وعقد ما، ثم يطل علينا لينفس عن عقده، ويبدو كمن يحارب طواحين الهواء.

لكن مذكرات مجدى يعقوب تقول إننا بإزاء إنسان متصالح مع نفسه ومع الجميع، وضع العلم مقياسًا وخدمة الإنسان غاية وهدفًا.

هناك فى عالمنا من وضعوا العلم فى طريق تدمير الحياة، المناخ والبيئة والإنسان، وهناك من أرادوا العلم وسيلة للتكسب والربح المادى، بغض النظر عن البعد الإنسانى، فى المقابل لدينا من يحاولون أن يكون العلم وسيلة للتخفيف عن الإنسان، خاصة فى مجال الصحة والطب، ولدينا العديد من هؤلاء فى مقدمتهم الإنسان العظيم د. مجدى يعقوب، وهذا ما دفعه لأن يبنى مشروعه فى أسوان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مجدى يعقوب الإنسان أولًا مجدى يعقوب الإنسان أولًا



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon