في تاريخ الزعيم سعد زغلول، هناك الكاريزما الطاغية والشعبية الكاسحة. في شيخوخته وصحته المتداعية، كان يمكن أن يقف خطيبًا لساعات في سرادق، صيفًا، حيث لا مراوح ولا تكييف، ويستولى على آذان وقلوب عشرات الآلاف، في زمن لم تكن به كاميرات التليفزيون ولا حتى ميكروفون الإذاعة. حب جارف من الكتلة الرئيسية في الشعب المصرى. امتد هذا الحب إلى العالم المحيط بنا، في تونس ومراكش وفى بلاد الشام كلها. وسط هذا كله، كانت هناك محاولة اغتيال للزعيم، وكادت تنجح، حيث أصابته رصاصة، وقيل رصاصتين. جرَت المحاولة في محطة السكك الحديدية، رمسيس، على الرصيف، بينما كان الزعيم يتحرك ليصعد قطار السابعة والربع المتجه إلى الإسكندرية، صباح السبت ١٢ يوليو سنة ١٩٢٤.
يمكننا القول إن تلك السنة- ١٩٢٤- كانت فارقة في التاريخ الوطنى والسياسى المصرى، خلالها جرَت أول انتخابات برلمانية بعد ثورة ١٩، أدت إلى وجود أغلبية وفدية وأقلية من الأحرار الدستوريين وغيرهم، وتشكلت «حكومة الشعب» برئاسة سعد زغلول. عاشت مصر أيامًا من التفاؤل والبهجة السياسية والوطنية، الملك فؤاد يبدو راضيًا أن البلاد تتجه نحو الاستقلال، وأنه في طريقه ليكون ملكًا دستوريًّا. سعد زغلول مبتهجًا، حقق بعض ما طالب به من الاستقلال، يشعر بامتنان حقيقى وأبوة تجاه المصريين، يحاول هو والحكومة تقديم ما يقدرون عليه لهذا الشعب، الذي ثار ودفع الفاتورة كاملة بالدم والروح.
الشعب أيضًا كان مبتهجًا، ها هو الزعيم الذي كان مُطارَدًا ومنفيًّا، يعود ليصبح رئيسًا للحكومة، والأهم من ذلك أنه أجبر الإمبراطورية العظمى على الجلوس مع المصريين والتفاوض معهم بكل ندية وكبرياء، واضطرها إلى الاعتراف باستقلال وسيادة مصر. نجح في كسر أنف الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
المعارضة جادة، أمامها برنامج كامل لتطبيق الدستور، لديها مشروع قوى ومتماسك لبناء دولة مدنية/ دستورية/ ديمقراطية، وهى على استعداد لتحمل كافة الصعاب لتحقيقه.
لم ترهبها سطوة الأغلبية وسيطرتها على الشارع، يحبون ويقدرون بصدق سعد زغلول، لكنهم يخشون على البلاد من سطوته المعنوية. يكتب طه حسين، في السياسة الأسبوعية، محذرًا من «سيطرة الزعيم» على نفوس المصريين، فلا يفكرون لأنه يفكر لهم ولا يقررون لأنه يقرر وهم راضون، بل سعداء- مسبقًا- بما سوف يصدر عنه من قرارات، إنها سطوة الحب والاحترام، وما كانوا مبالغين. للزعيم مصداقية لديهم، وهى مصداقية بُنيت بجسارته وتضحيته أثناء الثورة.
لم تكن المشكلة الكبرى في الوفد وأغلبيته الساحقة فقط، كانت هناك المؤسسات العتيقة، بالأحرى فإن تلك المؤسسات مع القصر والديوان الملكى.
وطبعًا كان هناك الإنجليز المحتلون، وقد انتزع المصريون منهم كل ذلك، سلم الإنجليز بما حدث، لكن لم يستسلموا ولا يئسوا، فضلًا عن أنهم لم يقتنعوا بعد بحق المصريين في الاستقلال والحكم الدستورى.
لم يكن ذلك كل المشهد في مصر، كانت هناك مجموعات، لا تعارض أو تناوئ سياسات الحكومة وزعيمها، لكن تكره الزعيم وترفض وجوده بالمرة، ويرى هؤلاء أن الأفضل هو إزاحته نهائيًّا من الحياة، وكان بحث الإنجليز جاريًا عمن يمكنه أن يفسد المشهد الوطنى المصرى، وكانوا في الطريق لتخليق مشروع مضاد يناوئ على طول الخط المشروع الوطنى برمته.
المهم في تلك اللحظة- صيف سنة ٢٤- كان هناك أعداء سعد ومشروعه. واحد من هؤلاء هو ذلك الشاب المدعو عبدالخالق عبداللطيف، نجل أحد القضاة الشرعيين، أرسله والده إلى ألمانيا لدراسة الطب. كان البعض يتجنبون الدراسة في قصر العينى، فيتجهون إلى جامعات أوروبا. وعاد عبدالخالق من ألمانيًا لغرض واحد هو «قتل الزعيم»، ولم يجد أسهل من محطة القطار، حيث سهولة الوصول إليه، وكان قد أعلن عن سفر رئيس الحكومة إلى الإسكندرية لتقديم التهنئة إلى جلالة الملك بمناسبة عيد الأضحى المبارك. الرصاصة أصابت الزعيم في ذراعه بقرب الكتف. الإصابة، من حسن الحظ، كانت سطحية. تفاصيل الحادث في حوليات أحمد شفيق (باشا)، وفى الكتاب الممنوع عن ثورة ١٩ للأستاذ مصطفى أمين، ثم قام زميلنا الراحل حازم هاشم بتحقيق وبحث الحادث، قبل حوالى عشرين عامًا.
نجا الزعيم من الحادث، وعاد بعد أيام يخطب في الجماهير، لكن لم ينجُ هو ولا حكومته كلها من حادث آخر، وقع في السنة نفسها، بعد شهور، هو اغتيال سير لى استاك في أحد شوارع القاهرة.
عجز البوليس المصرى عن الوصول إلى أي شىء مع مَن حاول اغتيال الزعيم، وفى النهاية أُودع مستشفى الأمراض العقلية، ونسيه الجميع، نسيه التاريخ نفسه. رغم اهتمام الصحافة المصرية بالحادث الجلل، وقيام بعضها بإصدار أكثر من طبعة في اليوم الواحد، لكن التحقيق الصحفى بها لم يكن قد اكتمل بعد، إذ اكتفت بمتابعة التقارير الطبية عن حالة سعد وتصريحات البوليس حول التحقيقات، لكن لم نجد حديثًا مع الجانى ولا تحقيقًا حوله ولا محاولة متابعة لأنشطته واتصالاته في ألمانيا. يلفت النظر أن عددًا من محاولات الاغتيال نفذها شبان كانوا عائدين من أوروبا، وبعضهم كانوا من الدارسين في التخصصات العلمية تحديدًا.
عجز البوليس المصرى، لكن الإنجليز لم يعجزوا أمام اغتيال السير، قاموا بإزاحة مصر نهائيًّا من السودان، طلبوا إقالة الحكومة، فعليًّا قاموا بإنهاء الدور الرسمى لسعد باشا، وبدأت عمليات التحايل على الدستور التي لم تتوقف، حتى إلغائه سنة ٥٣، كان الإرهاب المسمار الأول والأكبر في نعش الممارسة الديمقراطية لحظة ولادتها.
العام القادم- ٢٠٢٤- يمر قرن بالتمام والكمال على تلك التجربة، ميلاد البرلمان المصرى، بكل تداعيات التجربة، هل نحن على استعداد للاحتفاء بها؟، لا أقصد التهليل فقط، بل دراستها بعمق وضرورة التعلم منها، مائة عام من الممارسة البرلمانية والسياسية ماذا قدمت لنا؟.. الإيجابيات والسلبيات، لحظات القوة ونقاط الضعف، هناك مواقف مضيئة وعظيمة للبرلمان، وهناك بعض الممارسات التي تستحق التوقف والتساؤل.
صيف سنة ١٩٤٤، شكا توفيق دياب، الصحفى المعروف، في مقال له في جريدة «أخبار اليوم»- كانت لا تزال وليدة- من أن الجهاز الإدارى للدولة صار مثقلًا بالموظفين الذين يثقلون ميزانية الدولة، وأن معظم هؤلاء الموظفين غير أكفاء، عُينوا ترضية للسادة النواب، كانت المرتبات وقتها- العام المالى ٤٤/ ٤٥- نصف ميزانية الدولة.
مائة عام أيضًا في الممارسة الوطنية واعتراض العمليات الإرهابية لها، بعضها تم باسم الوطنية، وتحت سقفها ومعظمها جرى في عباءة جماعة حسن البنا وتفريعاتها إلى يومنا هذا. محاولة اغتيال سعد زغلول جرت من شاب لم يكن بعيدًا عن هتافات الحزب الوطنى الرافضة لأى تفاوض مع الإنجليز قبل الاستقلال التام، دارس الطب الشاب حنق على سعد أنه تفاوض مع المحتلين، وبعد التفاوض قال تصريحات إيجابية عنهم كمفاوضين، من باب البروتوكول السياسى، لكنها لديه استوجبت قتله، فترك ألمانيا ودراسته وجاء خصيصًا ليقتله.
إلى يومنا هذا لا تزال العمليات الإرهابية تعترض طريقنا.
المُلاحَظ أن عمليات الاغتيال التي جرت، سواء منها تلك التي نجحت أو التي كانت مجرد محاولة أو تلك التي تُكتشف قبل الشروع في التنفيذ، بدءًا من اغتيال الجنرال كليبر على يد سليمان الحلبى القادم من الشام بتجهيز وتكليف عثمانى، كان معظمها يرتبط بخيوط مع الخارج، تأهيلًا نفسيًّا وأيديولوجيًّا، فضلًا عن الدعم اللوجستى وغيره، الخيوط معقدة ومتشابكة جدًّا، لكن بصمات الخارج واضحة ومؤكدة في معظمها.
الأهم من كل ذلك أن الزعامة الكاسحة والكاريزما الطاغية لا تعنى الإجماع المطلق على الزعيم، ها هو ذا سعد زغلول يتعرض للاغتيال وتصل الرصاصة إلى جسده، جهارًا.. نهارًا، في أشهر موقع وقتها، كانت هناك محاولة سابقة، لكن تم اكتشافها مبكرًا.
بعد سعد تعرض معظم الزعماء تقريبًا لمحاولات اغتيال، زعماء الوطنية وزعماء الأدب والصحافة والفكر والفن، فضلًا عن رجال القضاء، معظمها فشل، والقليل منها نجح، مصطفى النحاس.. أحمد ماهر.. محمود فهمى النقراشى.. المستشار أحمد الخازندار.. جمال عبدالناصر.. أنور السادات.. فرج فودة.. نجيب محفوظ، رفعت المحجوب.. المستشار هشام بركات وغيرهم.
الزعامة لا تعنى الإجماع، ولا تلغى وجود المعارضين، كما أنها يمكن أن تولد الكارهين والرافضين، وبعضهم يصبحون إرهابيين، ليس في مصر وحدها، في الهند تم اغتيال الزعيم العظيم غاندى.