بقلم - حلمي النمنم
بدأت أول محاولة معروفة لصياغة مشروع وطنى مصرى في العصر الحديث مع على بك الكبير سنة ١٧٧٦، قبل حوالى قرنين ونصف القرن، أُجهضت محاولة على بك سريعًا من داخلها، بتدخل وضغط السلطنة العثمانية، نجح العثمانيون في اختراق السلطة المصرية واجتذاب محمد بك أبوالذهب إلى صفهم ضد المشروع الذي قاده على بك، وارتدت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبل على بك، بما سهل على نابليون بونابرت وأغراه بغزو مصر سنة ١٧٩٨، ثم تكررت المحاولات لإحياء المشروع الوطنى بشكل وأدوات أخرى مع محمد على باشا ونجله العظيم إبراهيم باشا، ونعرف ما جرى سنة ١٨٤٠ من بريطانيا والدولة العثمانية تجاه محمد على، بما أدى إلى تراجع المشروع الوطنى وتحجيمه، ثم حاول من جديد الخديو إسماعيل، وبُترت محاولته، ثم أُقصى عن الحكم، ونُفى من مصر في ١٨٧٩، وكان قرن من الزمان قد مر على محاولة على بك الكبير، ثم خضعت مصر للاحتلال البريطانى منذ سنة ١٨٨٢، وكان شيئًا غريبًا في التاريخ أن يخضع بلد للاحتلال مرتين أو احتلالين في وقت واحد.. احتلال بريطانى كامل واحتلال سابق هو الاحتلال العثمانى، يُقال عنه في بعض كتب التاريخ إنه كان احتلالًا وسيادة «اسمية»، لكنه لم يكن كذلك، لم يكن حاكم مصر يتولى موقعه إلا بفرمان عثمانى، يحدد اختصاصاته، وكانت بعض المناصب الأخرى في مصر يصدر قرار بشغلها من مقر السلطنة مثل موقع «قاضى القضاة»، ومعنى ذلك أنه ليس للوالى ولا للخديو أي ولاية عليه، وكان يمكن للسلطان أن يعزل الوالى أو الخديو في أي وقت يراه، دون إبداء الأسباب كما جرى مع الخديو إسماعيل. ولم يكن من حق حاكم مصر أن يخاطب أي دولة أخرى إلا عبر السلطان العثمانى، فلم يكن لدى مصر وزارة خارجية ولا سيادة مستقلة لها.
الواضح أنه كان هناك تنسيق وتفاهم كامل بين بريطانيا العظمى والسلطنة العثمانية في هذه التفاصيل، وضح ذلك أثناء الثورة العرابية، حين قررت بريطانيا تصفية الحركة العرابية تمامًا، كان التفاف المصريين حول عرابى مزعجًا لهم، على الفور أصدر السلطان عبدالحميد إعلانًا بعصيان عرابى وخروجه عن الملة. كانت الفتوى لصالح الجيش البريطانى وطعنًا للجيش المصرى والشعب أيضًا. كانت ثورة عرابى تجعل الشعب المصرى طرفًا فاعلًا ومؤثرًا في المشروع الوطنى كما حدث لحظة صعود محمد على سنة ١٨٠٥، وكان ذلك يعنى التحرر التام وبهدوء من السيطرة العثمانية والهيمنة الأوروبية- الإنجليزية تحديدًا- على كل شىء في مصر، لذا وقف العثمانيون والإنجليز دائمًا (إيد واحدة) ضد مصر والمصريين.
كانت الهزيمة صعبة والاحتلال قاسيًا، قصم الروح المصرية لسنوات، عبرت العديد من الدراسات التاريخية عنه، بالإضافة إلى بعض الأعمال الأدبية مثل مجموعة د. سهير القلماوى «أحاديث جدتى» ورواية أبوالمعاطى أبوالنجا «العودة من المنفى»، ثم ما لبثت الروح الوطنية أن استعادت قوتها مع صعود الخديو عباس حلمى الثانى، الذي ماطل السلطان العثمانى في إصدار فرمان توليه، ولما أصدره انتزع من ولايته وحدود البلاد منطقة طابا، وقامت معركة ضارية في مصر انتهت بتراجع السلطان.
حاول عباس حلمى استعادة الممكن من المشروع الوطنى، والبداية كانت بالعمل على التخلص من غشم السلطات البريطانية، هنا تبرز زعامة مصطفى كامل، وتشتد الحركة الوطنية بأجنحتها العديدة، ويصعد هتافه «لو لم أكن مصريًّا..»، وكان قادرًا على تحريك وجدان المواطنين، وأمكن لمصطفى كامل أن يحقق نصرًا كبيرًا وقتها، مستغلًّا جريمة البريطانيين في قرية دنشواى بالمنوفية، حيث أمكن خلع لورد كرومر من موقعه، ثم تأتى الحرب العالمية الأولى، فيزداد العسف البريطانى بالمصريين، وتتجمد كل القضايا. وُضعت مصر تحت الحماية البريطانية، وعُزل الخديو عباس حلمى بطريقة جد مهينة، بما مهد لثورة سنة ١٩١٩ وانطلاق زعامة سعد زغلول ورفاقه العظام. كان شعار الثورة «الاستقلال التام»، ثم كان أن استؤنف المشروع الوطنى المصرى وإعلان قيام «المملكة المصرية»، وصدور دستور سنة ٢٣ وانتخاب البرلمان في العام التالى مباشرةً، وفى عام ٣٦ تم توقيع معاهدة «الشرف والاستقلال» مع الحكومة البريطانية، وفى أكتوبر ١٩٥١ قام النحاس باشا بإلغاء المعاهدة، وأعلن مقولته الرنانة: «من أجل مصر وقّعتها، ومن أجل مصر أُلغيها». ترتبت على ذلك الإلغاء عودة الصراع مع الإنجليز عسكريًّا في منطقة القناة، حتى وصلنا إلى حريق القاهرة، وارتباك الحكم تمامًا، وانفلات الأمور من يد الملك فاروق، وتهدد المشروع الوطنى، فكانت ثورة يوليو ٥٢ ودخول المرحلة الناصرية بكل ما فيها من إنجازات عظيمة وإخفاقات كبيرة، ثم كانت مرحلة الرئيس السادات كذلك وذروتها انتصار أكتوبر وتحرير سيناء، ثم الحقبة المباركية وصولًا إلى انتفاضة يناير ٢٠١١ وتعثرها بقفز جماعة حسن البنا، الذين أرادوا اختطاف كل شىء والتخلى عن المشروع الوطنى، وقامت ثورة الشعب المصرى ضدهم في ٣٠ يونيو، وانتُخب الرئيس السيسى في عام ٢٠١٤.
مع كل هذه المحاولات وذلك الكفاح الممتد لقرابة قرنين ونصف القرن، يمكن أن نحدد بعض السمات المشتركة أو الخيوط الممتدة والمتصلة إلى يومنا هذا، حيث تشكل تلك السمات ما يمكن اعتباره الكتالوج المصرى، ويحلو للبعض في الداخل والخارج أن يرددوا بين حين وآخر أن مصر «بلد من غير كتالوج»، يقولون ذلك حين يقفون عاجزين عن فهم أمر ما أو حين يأتى فعل المصريين غير متوافق مع توقعاتهم عنه، وتلك تكون مشكلتهم هم لا مشكلة الشعب المصرى كله، مصر بلد موغل في القدم والتواصل والعمق الثقافى والحضارى، ولذا هناك كتالوج مصرى بالفعل، المهم أن يكون هناك مَن يسعى جادًّا لفهمه وقراءته، وأن يتقبله كما هو وفق صياغة المصريين له عبر تاريخهم الممتد والطويل.
لعل أبرز تلك الملامح أو السمات هو الاستقلال والسيادة الوطنية المصرية، كان ذلك ما سعى إليه على بك الكبير، واستمر إلى يومنا هذا، يختلف الحكام، وتتغير تسميات النظام السياسى، ويتغير مَن يهددون ذلك الاستقلال، ويحاولون انتهاكه بالفعل، قد يكون هناك احتلال مباشر للبلد كله أو جزء منه، وقد تكون هناك محاولات هيمنة من قوة عظمى أو أكثر أو ما نسميه «الاحتلال الناعم»، لكن يبقى الاستقلال حلمًا كبيرًا وهدفًا يسعى الجميع نحوه، والأهم أنه قيمة عليا لدى عموم المواطنين وجماهير المصريين طوال الوقت وعبر كل المراحل، يستوى في ذلك الذين خرجوا خلف أحمد عرابى وأولئك الذين سقطوا شهداء في شوارع المدن المصرية برصاص جنود الإنجليز أثناء أحداث ثورة سعد زغلول، وبينهم مَن لم يكن يملك قوت يومه، لكن ذلك لم يدفعهم إلى نسيان أو تجاهل قيمة وحلم «الاستقلال التام»، مثلهم في ذلك أبطال حرب الاستنزاف في سيناء وأبطال حرب أكتوبر وصولًا إلى أبطال عملية «حق الشهيد» بسيناء الحبيبة في السنوات الأخيرة. في كل حالة يختلف اسم مَن يعتدى على استقلالنا، إنجليزى مرة وإسرائيلى مرة ثانية وإرهابى مرتزق مرة ثالثة.
وقد استعمل المصريون كل الوسائل والطرق المتاحة أمامهم لنَيْل الاستقلال والحفاظ عليه، المطالبة الهادئة ثم الزاعقة والصارخة وصولًا إلى المطالبة بالسلاح.. بالروح بالدم.. حرفيًّا، وكذلك بالتفاوض الشاق والصعب، حدث ذلك مرارًا، لعل أشهرها المفاوضات التي واكبت وأعقبت ثورة ١٩ مع الإنجليز، والتى استمرت حتى توقيع اتفاقية الجلاء سنة ٥٤، المفاوضات التي بدأها عدلى يكن وخاضها معظم زعماء مصر وقتها مثل مصطفى النحاس انتهت مع جمال عبدالناصر وزملائه، تفاوض ناصر مع أنتونى إيدن، وكان هو نفسه مَن تفاوض مع النحاس باشا سنة ٣٦.
الاستقلال والسيادة الوطنية ليست قضية منتهية، لكنها متجددة ومستمرة، هناك دائمًا القوى العظمى أو صاحبة المصلحة التي تسعى للتدخل في شؤون الدول الأخرى والهيمنة عليها، فما بالنا ببلد له موقع متميز، وكل الدول يجب أن تخشى وتخاف على استقلالها وسيادتها، ولا يتصور أحد أن الدول الضعيفة وحدها هي التي يتم تهديد استقلالها، لنتذكر الذعر الذي سيطر على الولايات المتحدة حين بدا للبعض هناك مؤشرات على تدخل روسى سرًّا في الانتخابات الرئاسية سنة ٢٠١٦، أتصور أن دفع روسيا دفعًا واستفزازها حتى تتدخل في أوكرانيا لم يكن بعيدًا عن تلك المخاوف. ما يجرى بين الصين وتايوان هو في حقيقته يتعلق بمسألة الاستقلال والسيادة الوطنية.
المسألة بالنسبة لنا في مصر وبيننا كمصريين مختلفة بعض الشىء، يرى بعض الدارسين الأجانب أن لدينا حساسية زائدة ومُبالَغًا فيها بعض الشىء، ربما لأننا تعرضنا لاحتلالات طويلة وكنا دائمًا- ومازلنا- مطمعًا لقوى عظمى وحتى صغرى، الهكسوس والفرس والرومان قديمًا، الإنجليز والفرنسيين حديثًا، ثم مَن جاء بعدهم، ليسوا هم الطامعين فقط، هل نتذكر حاكمًا عربيًّا راحلًا تصور أن بلده الغنى صغير عليه وأنه يستحق أن يحكم بلدًا كبيرًا مثل مصر، فسعى لفرض الوحدة فرضًا علينا، وبذلك يُتاح له عمليًّا ما حلم به؟!.
الحديث ممتد.