فى هذا اليوم، قبل 57 سنة، كانت حرب يونيو 67، التى شنتها إسرائيل علينا أوشكت على النهاية، وكان عبدالناصر تعهد أمام العالم وكبار زعمائه أنه لن يشن هجومًا على إسرائيل، أى أنه لن يبدأ حربا، لكنها هى شنت الهجوم، وإلى يومنا هذا يأخذ عليه كثيرون فى مصر والعالم العربى أنه لم يبادر هو بالهجوم، أيا كان الأمر نجح الهجوم الإسرائيلى، وصلت قواتهم شرق قناة السويس، محتلين سيناء بالكامل، وثبت أن كل تعهدات القيادة العامة للرئيس بالاستعداد والجاهزية، لمواجهة وامتصاص أى هجوم نتعرض له، كانت مجرد كلمات فى الهواء، وأنهم كانوا لا يملكون، الحدود الدنيا من الاستعداد.
ثبت أن العدو كان خطط للهجوم واستعد منذ فترة بعيدة، بينما نحن لم تكن لدينا خطة هجوم، حتى الخطط الدفاعية تم تعطيلها فى اللحظات الحرجة.
يوم 9 يونيو خرج الرئيس جمال عبدالناصر مساء بخطاب إلى الشعب يعلن فيه أننا تعرضنا لهزيمة قاسية، سمّاها نكسة، لكن فى خطاب آخر يوم 23يوليو من السنة نفسها، ذكرى قيام الثورة، استعمل كلمة هزيمة.
فى خطابه، الوثيقة، صارح الرئيس الشعب بكثير من التفاصيل، لكنه بكل تأكيد لم يذكر كل شىء، كانت هناك أمور وتفاصيل لا يمكن أن تقال على الهواء فى تلك اللحظة، ذكر بعضها فى عدد من الاجتماعات مع قيادات الدولة فيما بعد، وفى مذكرات «محمد فائق» وزير الإعلام وقتها، صدرت العام الماضى فقط، بعنوان «مسيرة تحرر»، نسمع من عبدالناصر تحليلًا معمقا للوضع الداخلى قبل الهزيمة مباشرةً.
مساء التاسع من يونيو وفى خطابه، أعلن عبدالناصر قرار التنحى «تماما ونهائيا عن كل منصب رسمى وأن أعود إلى صفوف الجماهير...».
بعفوية وتلقائية تامة، نزل الملايين من المصريين إلى الشوارع، يرفضون هذا القرار، مرددين شعار «لا تتنحى»… «هانحارب»، زحف بعضهم حتى منزل الرئيس، استعصى على قوات الأمن منعهم من الوصول إلى هناك.
فى تاريخ الشعب المصرى، نزل المصريون إلى الشوارع يصرخون فى الحاكم، كى يغادر، فى مايو سنة 1805، اجتمعوا حول القلعة مسلحين بالنبابيت والعصىّ بهتاف واحد «انزل يا باشا»، ظلوا حوالى أربعين يوما والباشا فى ذهول من ذلك المطلب، وصارح السيد عمر مكرم نقيب الأشراف بأنه عين بأمر مولانا السلطان فكيف يعزل بأمر الفلاحين؟، كما روى الجبرتى فى تاريخه.
فى النهاية نزل الباشا بأمر الفلاحين، حل محله بأمرهم أيضا محمد على باشا، وتكرر الأمر فيما بعد بصيغ وفى سياقات أخرى.
عايشنا نحن ذلك مرتين، الأولى فى يناير وفبراير 2011، كان الهتاف «ارحل»، وبعدها بعامين فقط فى الثلاثين من يونيو سنة 2013، وكان النداء «يسقط يسقط حكم المرشد».
ليس الشعب المصرى وحده فى ذلك، حدث أيضا طوال التاريخ فى عديد من البلدان حول العالم، الإنسان هو الإنسان فى كل مكان.
لكن فى يونيو 67، كنا بإزاء نزول معاكس، أى لمنع الرئيس من المغادرة فى مفارقة واستثناء تاريخى تام، يستوجب أن نتوقف عنده مطولا.
رئيس تلقى ضربة موجعة وهزيمة ساحقة، تصرف كما يليق وقرر الانسحاب من المشهد نهائيا، فإذا بالجماهير التى يجب أن تحاسبه أو تطالب بمحاكمته تندفع بصخب تطالبه بعدم المغادرة.
استثناء أساء فهمه المتعالون والمتعالمون على هذا الشعب والكارهون لجمال عبدالناصر، وكذا بعض المنتسبين إليه فى العمل السياسى والتنفيذى.
إساءة الفهم تسير على طريقة «حافظ مش فاهم»، أولئك الذين يرددون مقولات «تراث العبيد» والولع بالاستبداد الشرقى، وغير ذلك من مقولات الاستعماريين الأوروبيين فى القرن الثامن عشر.
الكارهون رددوا حكايات كاذبة عن قيام «الاتحاد الاشتراكى»، التنظيم السياسى وقتها، بحشد الملايين فى الشوارع وتلقينهم تلك العبارات، ومن حق الكارهين أن يقولوا ما يحلو لهم، لكن قولهم هنا ينطوى على تصورات مبالغ فيها عن قوة ونفوذ ذلك التنظيم، ناهيك عما يحمله من إساءة بالغة لعموم المصريين.
أما بعض المنتسبين لعبدالناصر فقد تصوروا أن نزول المصريين ينسحب عليهم، هم أيضا بالتبعية، فى مواقعهم، المشير عبد الحكيم عامر- رحمه الله- تصور هو والمقربون منه أن من حقهم البقاء، راهن فريق آخر من رجال عبدالناصر، على ذلك أيام أزمة مايو سنة 71 مع الرئيس السادات وتلك قصة أخرى.
بعض النخب المصرية، حتى من الدائرة الناصرية، كان رأيهم أن عبدالناصر يجب أن يغادر هو ونظامه ويأتى نظام وحكم جديد، يتعامل مع الموقف بأسلوب آخر، الشعب كان يرفض، قصيدة الشاعر صالح جودت التى غنتها كوكب الشرق أم كلثوم «ابقى.. فأنت الأمل الباقى» التى تلخص كل شىء.
لو رحل عبدالناصر وقتها وجاء رئيس جديد بتوجه آخر، كما تمنى البعض، فلن يكون مسؤولا عن الهزيمة ولا مطالبا برد الاعتبار واستعادة الهيبة والكرامة، ربما يبنى خططه على أساس قبول الهزيمة وقبول نتائجها التى أراد العدو أن تكون مهينة ومذلة.
باختصار كانت الهزيمة سوف تمر وتصبح بلا مسؤولية، المسؤولية هنا لا تعنى فقط محاكمة ومحاسبة المسؤولين عنها، المسؤولية الوطنية فى المقام الأول تعنى ردها وتحقيق النصر وتحرير كل شبر من أرض هذا الوطن.
عبقرية هذا الشعب تتجلى فى موقفه التلقائى، أى التمسك بوجود عبدالناصر، لخص الشعب تلك الاستراتيجية بترديد جملة من أغنية لعبد الحليم حافظ «اللى شبكنا يخلصنا»، كانت الأغنية عاطفية تماما لكن الأذن والوجدان الذى استقبلها كان سياسيا إلى جوار العاطفى.
أكثر الذين فهموا موقف عموم المصريين وقتها هو عبدالناصر نفسه الذى استجاب وقرر التراجع عن التنحى «حتى إزالة أثار العدوان»، وأذاع هذا القرار رئيس مجلس الأمة فى حضور الأعضاء.
حاول البعض التوقف أمام ما قام به عدد من أعضاء المجلس- نواب ذلك الزمان- من تعبير عن الابتهاج بتراجع الرئيس، كان تعبير أحدهم فجا ولا يليق.
الموقف الشعبى التلقائى، فرض على الآخرين إعادة النظر فى رؤاهم، على الأقل تجميدها والتزام الصمت.
فى كيمياء العلاقة والارتباط بين الزعيم والجماهير، كانت العودة مشروطة بضرورة استعادة الكرامة والهيبة، من هنا بدأت عملية إعادة بناء القوات المسلحة وخوض حرب الاستنزاف، تحمل الشعب كل تكاليفها الوطنية والإنسانية راضيا، إلى جوار التكلفة المادية، دعنا الآن من أولئك الذين يصرون على إنكار تلك الحرب وتجاهل نتائجها.
على مستوى الشارع لم يعد هناك تفويض مطلق للزعيم كما كان من قبل، انتهى سحر الكاريزما الذى يجعل المواطن مستقبلا ومتلقيا فقط، نشأت حالة تفاعل جديدة.
دخل الشارع رقيبًا، قبل أن يكون شريكا، مظاهرات سنة 1968، نموذج واضح، اعترض كثيرون، خاصةً بين طلاب الجامعات والفئات المسيسة، وللمفاجأة شباب من داخل الاتحاد الاشتراكى، أى من داخل النظام وصلبه، على الأحكام المخففة التى صدرت بحق بعض قادة النكسة، إذ اعتبرتها أحكاما صورية لا تليق بحجم الكارثة التى أحدثوها، ورغم أن عبدالناصر كان وقع تلك الأحكام، لكن سحب التوقيع احتراما لرفض الجماهير واستجابة لمشاعرهم وكلماتهم الغاضبة فى المظاهرات والتى طالته هو شخصيا.
اعتبر بعض المحللين تراجع عبدالناصر أمام المتظاهرين مؤشر ضعف ودليل تراجع فى قوته ونفوذه، فضلا عن اهتزاز شعبيته، الحق أن التراجع أمام إرادة الجماهير دليل قوة ومؤشر ثقة واحترام.
كان رفض الجماهير واستجابة الرئيس يؤكدان أن كلا منهما يدرك ويرتضى تلك العلاقة المشروطة، باختصار ليس هناك شيك شعبى على بياض. رقابة الشارع أو شراكته أو شرطه، سمها ما شئت، ليس معناها ولا ينبغى أن يراها أحد، سواء داخل النظام، أى البعض داخل أجهزة الدولة، أو خارجه، المعارضون أو الكارهون، انتقاصا من قدر الزعيم ولا مساسا بهيبته، ناهيك عن أن تكون كراهية له وضيقا به، كان التقدير والحب له كبيرين، ربما إلى يومنا هذا. لكن الذى تغير هو أسلوب العلاقة والتعامل بين عبدالناصر والجماهير.