فى الثانى من أغسطس سنة ١٩٥٢، بعد أسبوع واحد من مغادرة الملك فاروق مصر، متنازلًا عن العرش، وصعود اللواء محمد نجيب، اتخذت الحكومة برئاسة على ماهر (باشا) فى ثانى اجتماعاتها قرارًا بإلغاء الرتب المدنية. كان المقصود بهذا القرار فى المقام الأول رتبتى البك والباشا، وبررت الحكومة قرارها بأنه يساعد على تحقيق «العدالة الاجتماعية» والحد من التمييز الطبقى فى المجتمع، ولا نعرف بالضبط وجه العجلة والسرعة فى اتخاذ ذلك القرار، رغم أن جدول الحكومة وقتها كان مزدحمًا بالقضايا والقرارات التى يجب أن تتخذها. لست مقتنعًا بذريعة العدالة الاجتماعية، رغم أن على ماهر هو مؤسس وزارة الشؤون الاجتماعية، ذلك أن هذه الحكومة نفسها تلكأت، يمكننا القول إنها رفضت، إصدار قانون الإصلاح الزراعى الأول. كان على ماهر ضد القانون، ومع فرض ضرائب تصاعدية على كبار الملاك، الأمر الذى دفع اللواء محمد نجيب إلى إقالتها وتشكيل حكومة جديدة برئاسته هو فى الشهر التالى مباشرة.
كان على ماهر، رئيس مجلس الوزراء، يحمل لقب «باشا» وعدد غير قليل من الوزراء كانوا يحملون نفس اللقب أو لقب «بك»، وربما أرادوا جميعًا أن يثبتوا للواء نجيب وبقية زملائه أنهم ليسوا متمسكين بوجاهة العصر الملكى، وأن اللقب «رفعة الباشا» لا يضيف إليهم كثيرًا.
أُلغيت الألقاب المدنية رسميًّا، لكنها لم تُلغَ عمليًّا، ففى حياة المواطنين وتعاملاتهم معًا، حتى يومنا هذا، مازال لقبا البك والباشا يترددان فى الشارع وفى تعامل المواطنين مع بعض الموظفين العموميين وكبار أو صغار المسؤولين.
من النوادر فى زمن الرئيس السابق حسنى مبارك أن أحزاب المعارضة لوّحت مرة بمقاطعة الانتخابات النيابية، فاستُدعى رئيس أحد الأحزاب الصغيرة إلى رئاسة الجمهورية، وجلس فى مقر السكرتارية، وتم ترتيب الأمر أن يراه الرئيس وهو خارج من المكتب، وهَمَّ بمصافحة الرئيس، الذى فاجأه بالسؤال: «هاتدخلوا الانتخابات؟..»، فرد بالإيجاب، وأخبره الرئيس أنه سوف يعين فى مجلس الشورى و.. و.. من شدة الفرحة رد الرجل الطيب على الرئيس بالقول: «شكرًا يا سعادة البيه»، كان الرد مفاجئًا ومضحكًا للرئيس ولمَن تابعوا المشهد. حدث هذا رغم كل ما قامت به الدراما المصرية من السخرية وتحقير أى من اللقبين وطريقة الحصول عليهما، فيلم «الفتوة»، الذى أخرجه صلاح أبوسيف سنة ٥٧ نموذجًا.
واقع الحال أن كل موظف كان يصل إلى درجة مدير عام ويصل راتبه إلى ثمانمائة جنيه سنويًّا، كان من حقه الحصول على رتبة البكوية من الدرجة الثانية، وإذا بلغ الراتب السنوى ألفًا ومائتى جنيه تصبح من الدرجة الأولى، وهكذا وصولًا إلى درجة الباشوية. فى الوسط العلمى والثقافى نعرف جيدًا صاحب قاموس مصر الجغرافى والعديد من الدراسات الرصينة والمتميزة حول تاريخ القاهرة العمرانى، محمد رمزى «بك»، هذا الباحث العظيم نال لقب «بك» حين وصل إلى موقع مدير عام بوزارة الأشغال العمومية، كما كان يحصل على الرتبة كل مَن تبرع لخدمة أو مشروع عام بمبلغ محدد، يبدأ من خمسة آلاف جنيه فى سنة واحدة، وبارتفاع المبلغ إلى عشرين ألفًا وصولًا إلى ثلاثين يمكن أن يصير اللقب «باشا»، هل يفسر لنا ذلك أن بعض الأغنياء كانوا يهرعون إلى بناء مستشفيات ومدارس ومساجد فى أنحاء مصر؟!.
طبعًا كانت هناك بعض تجاوزات فى المنح لأسباب خاصة بالدولة ومطالبها فى الإنفاق المالى، شرحها سكرتير الملك فاروق د. حسن حسنى، فى مذكراته الخاصة، التى نشرتها «دار الشروق» فى طبعتين. وكيل الديوان الملكى «حسن يوسف» رصد فى مذكراته أن بعض العاملين بالقصر كانوا يتدخلون لمنح بعض الأفراد رتبة بك أو باشا، لكنها بقيت حالات فردية.
إلغاء الرتب والألقاب المدنية القديمة جعل المزاج العام يتجه إلى رتب جديدة، فكانت الدكتوراه، التى صارت جواز المرور فى الحياة العامة وتولى المناصب، وهكذا وجدنا الأستاذ محمود فوزى وزير الخارجية يسارع لنيل الدكتوراه من جامعة نمساوية، ذكر بعض خبراء الجامعات وقتها أنها ليست من جامعات المستوى الأول أكاديميًّا وعلميًّا، ثم تطور الأمر واتسع فوجدنا مَن يحصلون على دكتوراه من إحدى جامعات أوروبا الشرقية زمن الحرب الباردة وحتى مطلع القرن، وصارت تجارة وبزنس معروفًا للكثيرين، حتى وصلنا إلى ما سميته فى منتصف التسعينيات مرضًا اسمه «الدال نقطة». سَرَت شائعة وقتها أنك بمبلغ ثلاثمائة دولار تأتيك الدكتوراه من جامعة بعينها فى دولة شرق أوروبية. ومادام أنها للوجاهة الاجتماعية والسياسية، فلا أحد يدقق أو يتساءل. فى السنوات الأخيرة ضُبط بعض مَن يقومون بتزوير شهادات من هذا النوع، ويستعملون مصطلح «ضرب شهادة». لدينا قاموس من المصطلحات تبتعد بالفعل الآثم عن أى مخالفة قانونية. كلمة تزوير لا ترد لديهم نهائيًّا. ازداد ضرب الشهادات من هذا النوع بعد سنة ٢٠١١، حيث صار من حق حامل الماجستير والدكتوراه أن يُعين فورًا فى وظيفة حكومية ويتجاوز حاجز البطالة. رحم الله أيام أن كان «ساقط التوجيهية» يُنظر إليه كمتعلم متميز.
هناك مَن صادفتهم مشكلات حين قرروا التعامل رسميًّا بمثل هذه الدال نقطة.
وأصبحنا نعيش فى فوضى الرتب والألقاب المدنية. قبل حوالى عشرين عامًا، فُتح ملف شركة مقاولات ارتكبت مخالفات فى البناء العشوائى بمدينة نصر، كان صاحبها عضوًا بمجلس الشعب، ويحمل لقب «مهندس»، وفى المجلس كان ينادى اسمه بهذه الصفة، غير أنه لم يكن مهندسًا، ولا حصل حتى على أى مؤهل عالٍ. كان يحمل دبلومًا فوق المتوسط، ولأن لدينا ازدراء اجتماعيًّا، نُصِرّ عليه، ومن ثَمَّ الرسمى، لأبناء التعليم المتوسط وخريجيه، رغم أهميته البالغة، أخفى سيادة النائب مؤهله التعليمى عن ناخبيه وعن الجهات الرسمية، واستمتع بلقب «باشمهندز»، الذى يُلقب به كل مَن هب ودب الآن، مع كامل التقدير لكل خريجى وخريجات كليات الهندسة ونظائرها من المعاهد المتخصصة.
ودخل على الخط لقب «مستشار». يرد إلى الذهن أن حامل هذا اللقب لابد أن يكون أحد السادة رجال القضاء، لكن لم يعد الأمر كذلك فى السياق العام والوجاهة الاجتماعية، هناك لقب مستشار فى العديد من الجهات الحكومية وغيرها، فضلًا عن مستشارين فى تخصصات بعينها بالوزارات، بل يوجد فى الجهاز الإدارى بالدولة لقب «مستشار أ» و«مستشار ب»، ويحمل أيًّا منهما مسؤول ما، يبعد عن ممارسة اختصاصه لسبب ما، والملاحظ أن بعض السادة مستشارى الوزارات يقررون الاحتفاظ بلقب مستشار، حتى بعد انتهاء المهمة ومغادرة الوظيفة، ويسيرون به فى الحياة العامة. لسنوات ظل أحد الوجوه مواظبًا على المشاركة فى ندوات معرض الكتاب، وفى كل جلسة يقدم نفسه «المستشار..»، ويتحدث خطفًا من القاعة، ثم حدث أننى كنت أدير إحدى الجلسات وراح يتحدث من القاعة، فصممت أن يصعد إلى المنصة ويتحدث باستفاضة، وطلبت منه أن يشرح لنا حكاية المستشارية، فقال إنه كان «مستشار المواد الاجتماعية» فى التربية والتعليم، قبل المعاش، وكما يُقال «الصيت ولا الغنى».
لا أريد أن نقف فى هذا الأمر عند التوصيف القانونى أو الشق العقابى من قبيل أن بعض ذلك نوع من التحايل، وربما التزوير أو انتحال صفة، لكن يجب أن نتأمل الأمر اجتماعيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا، قبل كل ذلك إنسانيًّا.
نحن إزاء حالة من الإصرار الإنسانى والاجتماعى على تميز أو تمايز بعض الأفراد والفئات، وهناك مَن يسعون إلى ذلك، حتى لو كان بالفهلوة والفبركة. المجتمع لا يرى غضاضة فى ذلك، وهناك ميراث تاريخى وثقافى، بالمعنى الواسع للكلمة، يدعم تلك الحالة، بل يمكن أن يتسامح أو يجد مبررًا لمَن يفبركون. لاحظ تعامل المجتمع مع فبركة الشهادات الجامعية أحيانًا ومع سيل الألقاب من «باشمهندز» حتى «مستشار». قديمًا كان يمكن فى الريف المصرى أن يُمنح حلاق الصحة لقب «حكيم»، وكان يمكن تفهم ذلك، لكن الآن دخل الموضوع فى مجال «البزنس» والوجاهة الاجتماعية.
حين اتخذت حكومة على ماهر قرارها بإلغاء «الرتب المدنية» لم تكن جادة بالقدر الكافى، ولا درست الموضوع جيدًا، يبدو لى أنه كان مزايدة أو مجاراة وتجاوبًا مع موقف سياسى.
حتى الآن يُوزَن الإنسان بوظيفة.. شهادة عليا.. موقع ما، ناهيك عن اعتبارات أخرى عديدة نعرفها جميعًا، الوجاهة والنفاق الاجتماعى يزداد.
التعامل والحق الإنسانى المجرد، بغض النظر عن أى بُعد آخر، مازلنا عنه بعيدين