في الأيام الأولى التي أعقبت عملية السابع من أكتوبر في فلسطين وإسرائيل، أطلق الرئيس الأمريكى «جو بايدن» العديد من التصريحات، بعضها تكرار لكلمات سابقة مثل إنه ليس يهوديًّا ولكنه صهيونى، ومثل حق إسرائيل المطلق في الدفاع عن نفسها، وهكذا، لكن كان هناك تصريح لافت قال فيه «لو لم تكن إسرائيل موجودة لاخترعناها»، كان التصريح محاولة من الرئيس للرد على دهشة الكثيرين في الولايات المتحدة وحول العالم من حجم المساندة الأمريكية لإسرائيل،
منذ اللحظة الأولى، وقد اقتربت من المشاركة المباشرة في المعارك، أكبر حاملة طائرات أمريكية تم استدعاؤها لترسو في البحر المتوسط قبالة إسرائيل، ثم عززت بحاملة ثانية وانضمت إليهما غواصة نووية كبرى، وتبين وجود مركز عسكرى أمريكى في صحراء النقب، مخصص لحماية سماء إسرائيل من الطائرات أو الصواريخ التي قد توجه إليها من الخارج وبالتأكيد هذا ليس كل شىء، هناك أمور ومساعدات خفية، قد تتكشف ذات يوم. يكفى أن المجهود الحربى والمعاونة العسكرية الأمريكية لأوكرانيا في مواجهة روسيا تراجعت لحساب إسرائيل.
كل ذلك لمواجهة فصائل تعمل حرفيًّا، تحت الأرض، في الأنفاق، باختصار ليست جيشًا نظاميًا، وثبت أن بعض أفراد المارينز شاركوا القوات الإسرائيلية في محاولة العثور على الرهائن لدى الفصائل الفلسطينية.
المساندة الأمريكية المطلقة لإسرائيل اعتدنا عليها، عانينا منها في حروبنا، سنة ٦٧ وفى حرب الاستنزاف ثم في حرب أكتوبر ٧٣، لكن هذه المرة ومع الرئيس بايدن صارت الولايات المتحدة- عمليًّا- طرفًا في القتال، وزير الدفاع الأمريكى وقائد القوات البرية يحضران اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلى، تعرض عليهما العمليات ويشيران بما يجب أن تقوم به القوات الإسرائيلية، يقترحان خططًا وعمليات بذاتها.
الحق أن إسرائيل بمعنى ما اختراع أمريكى، هم اخترعوها بالفعل، يعود الاختراع إلى الرئيس هارى ترومان.
بريطانيا العظمى أصدرت وعد بلفور سنة ١٩١٧، تحدث الوعد عن «وطن قومى» لليهود أي تدبير إقامة دائمة، وكان المطلوب تحويل الوطن إلى دولة، وهذا ما قام به الرئيس الأمريكى هارى ترومان، وبات مؤكدًا أن ذلك تم بتفاهم وتنسيق مع بريطانيا، ترومان هو الذي تدخل بثقله لصدور قرار التقسيم، هدد ثلاث دول رفضت التصويت لصالح التقسيم في الجولة الأولى وتم شراء أصوات دولتين، ومع ذلك صدر القرار دون أغلبية كافية وتم اللجوء إلى حيلة بيروقراطية لتمريره، ودون ذلك ما كان القرار ليصدر.
وكانت المشكلة عادت إلى حجمها الطبيعى، أزمة أقلية يهودية في بلد أغلبية مواطنيه من العرب، كأن تقوم دولة واحدة ثنائية القومية واللغة، ساعتها كان يمكن للتاريخ أن يأخذ مسارًا آخر، بالتاكيد كان الفلسطينيون سيصلون إلى تفاهم ما مع اليهود، أزعم أن قدرًا من التفاهم كان قائمًا بالفعل، خاصة أن الجناح المعارض للحاج أمين الحسينى، الذي قاده راغب النشاشيبى كان متقبلًا وجود اليهود، وأسس منذ ثورة سنة ١٩٣٦ جمعيات للسلام معهم وشرّعوا وقتها فيما يسمى بيننا منذ أكثر من أربعة عقود «التطبيع».
بعث راغب النشاشيبى برقية إلى المندوب السامى البريطانى على فلسطين أكد فيها تأييد وعد بلفور، نعم كانت هناك احتكاكات ولحظات صدام في فلسطين بين العرب واليهود، خاصة حول المواقع الدينية المقدسة لدى المسلمين واليهود، لاسيما في القدس وفى الخليل، لكن كانت الأمور تمضى وتسير الحياة، عرفت المنطقة تاريخيًّا صدامات اجتماعية وطائفية من هذا النوع، لكن في النهاية كان يتم التوصل إلى صياغة للتعايش، ما جرى في جبل لبنان نموذجًا، تقبل العرب وجود الجامعة العبرية وبناء تل أبيب وغير ذلك كثير.
حين بنيت تل أبيب نظر العرب في فلسطين وخارجها على أنها منافسة لمدينة حيفا، كتب عباس العقاد عن تلك المنافسة وطلب دعم حيفا سياحيًّا واقتصاديًّا، كانت فلسطين مقصدًا سياحيًّا للعرب من البلدان المحيطة وكانت القدس كما حيفا ويافا وتل أبيب مقصدًا لهم، بلا حساسية، ما لم يتقبلوه هو مشروع التقسيم الذي أعلنته السلطات البريطانية في فلسطين منذ سنة ١٩٣٦، منهية بذلك حالة التعايش وفتحت الباب لأبواب جهنم التي لم تغلق إلى يومنا هذا وربما لأجيال قادمة.
حاول وزير الخارجية الأمريكى وقت صدور قرار التقسيم، أمام عدد من المسؤولين العرب، تبرير موقف الرئيس ترومان بأنه مضطر لمجاملة اليهود واسترضاء جماعات الضغط اليهودية نظرًا لأنه على وشك خوض الانتخابات الرئاسية سنة ٤٨، غير أن صحفيًّا أمريكيًّا صارح وقتها د. حسين هيكل (باشا) وكان رئيس الوفد المصرى في اجتماعات الأمم المتحدة بأن اللوبى اليهودى ليس بهذه القوة وليس له تأثير كبير على الانتخابات الرئاسية، لكنها رغبة ترومان وموقفه الشخصى. الحق أن موقف ترومان كان يبلور الموقف الغربى وكان «اختراع» إسرائيل جزءًا من تسويات وفواتير الحرب العالمية الثانية.
تاريخيًا سار معظم رؤساء الولايات المتحدة على خطاه، وفى كل مرة يقال لنا إن الرئيس الأمريكى مضطر إلى مساندة واسترضاء جماعات الضغط اليهودية وإسرائيل استعدادًا للانتخابات.
باختصار إسرائيل اختراع غربى (أوروبى/أمريكى) في هذه المنطقة من العالم، التي يصر الغرب على الهيمنة التامة عليها، فضلًا عن التخلص من أزماته الثقافية والتاريخية مع اليهود ومع العرب.
مشكلة الغرب (الأوروبى/الأمريكى) مع العرب قديمة تعود إلى اندفاعة الإسلام الأولى، زمن الفتوحات العربية في بلاد الشام ثم مصر ومنها إلى شمال إفريقيا وصولًا إلى المحيط الأطلنطى ثم العبور إلى شبه جزيرة أيبيريا (الأندلس)، ترتب على ذلك انهيار النفوذ الرومانى جنوب المتوسط، وفى النهاية إسقاط الدولة البيزنطية الشرقية، ناهيك عن السيطرة على الأماكن المقدسة في فلسطين. المتابع للدراسات الاستشراقية يلاحظ زخمًا من الدراسات حول مراحل التاريخ الإسلامى والعربى المختلفة، لكن هناك تجاهل أو محدودية الدراسات، لنقل كراهية دفينة للدولة الأموية باعتبارها دولة عربية في المقام الأول.
تأمل اهتمام واحتفاء المستشرقين بالخلفاء العباسيين، مع التركيز على الجوارى والغلمان في قصور الخلفاء والامراء، بينما نجد تجاهلًا آو اهتمامًا أقل بالخلفاء الأمويين وتحديدًا لشخصية معاوية بن أبى سفيان، هو من أعظم شخصيات التاريخ الإنسانى كله، رجل دولة بمعنى الكلمة، دعك الآن من صلته المباشرة بنبى الإسلام، عليه الصلاة والسلام، هو ابن سيد العرب، وإذا تم تذكره تجرى محاولات لإلصاق كل ماهو سلبى وسيئ به.
هذه الكراهية للعرب تم توارثها في الحضارة الغربية، فضلًا عن الرغبة في الانتقام والثأر التاريخى، مع اتخاذ كافة الخطوات للحيلولة دون وجود قوة أو دولة عربية يمكن لها أن تكرر ما فعله الخليفة الثانى عمر بن الخطاب ثم أكملته الدولة الأموية، حتى حين ضعفت وجرت مطاردة الأمويين توجه أحدهم إلى أوروبا وأسس الأندلس.
وأهم تلك الخطوات اختراع أو اختلاق كيان غربى في قلب المنطقة، يحمل ثقافة مغايرة تمامًا وقيمًا مختلفة، تحديدا في فلسطين وحولها، بما يقصم الشام ويفصله نهائيًّا عن مصر وعن شبه الجزيرة العربية، حيث الأماكن المقدسة إسلاميًّا، مع السيطرة على ساحل المتوسط، كانت التجربة الأولى في الإمارات اللاتينية أو الصليبية التي تم تأسيسها بالقوة واستمرت أكثر من قرنٍ.
بدأت الحملات على فلسطين وحاولت الزحف على مصر، عبر المتوسط، لكنها في النهاية فشلت، بسبب المقاومة الشديدة حربيًّا، وجاء الانتصار في معركة حطين ثم اتفاق الصلح الذي وقعه القائد العظيم صلاح الدين الأيوبى وتسامحه الشديد، هنا لم يعد هناك مبرر للعداء، وكان لا بد من التعايش ومن ثم الاندماج في المنطقة، أي ابتلاع المنطقة ثقافيًّا وحضاريًّا للوافدين عليها، كان الشعار الأساسى للغزاة حماية قبر السيد المسيح، وإقامة مملكته، مع مرور الوقت اقتنع الجميع بأن مملكة السيد المسيح الحقيقية في القلوب والضمائر، تبين كذلك أن الأهداف الحقيقية اقتصادية وسياسية، هنا وصل المشروع إلى نهايته بالإفلاس وقرر الأمراء اللاتيننيون الرحيل التلقائى عن المنطقة ورحل معهم من أراد وذاب من بقى وسط أهلها.
طوى هذا الفصل، لكن ألمه بقى عميقًا في العقل الباطن، مع تحين العودة ولكن بأسلوب وأدوات أخرى، هكذا جاء نابليون إلينا في نهاية القرن الثامن عشر، بطريقة معكوسة، هذه المرة بدأ من مصر وقرر الزحف إلى الشام وبدلًا من حماية الصليب رفع شعار أنه جاء حماية للإسلام الذي يؤمن به، من فساد واستبداد المماليك، هكذا أعلن في بيانه الأول إلى المصريين، ولأسباب عديدة على رأسها مقاومة الشعب المصرى.
فشل مشروع نابليون بعد ثلاث سنوات فقط وعادوا من حيث جاءوا، غير أن نابليون فتح الباب للاستعمار الأوروبى في المنطقة، لكن الاستعمار إلى زوال، مهما طالت سنواته، هنا كان لا بد من مشروع جديد يتلافى ما اعتبر نقاط ضعف الإمارات اللاتينية (الصليبية) في العصور الوسطى، ويكون دائمًا وليس مؤقتًا ولاعابرًا، فكان المشروع الصهيونى وكانت فلسطين الهدف وتم اختراع إسرائيل في المنطقة؛ انتقامًا تاريخيًّا من العرب وكذلك تخلص بلاد وحضارة الغرب من اليهود.