توقيت القاهرة المحلي 10:48:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الصحفى ورجل الدولة

  مصر اليوم -

الصحفى ورجل الدولة

بقلم - حلمي النمنم

على عكس كل التوقعات.. لم تكن علاقة الأستاذ هيكل بالرئيس السادات وردية طوال الوقت، حتى قبل حرب أكتوبر ٧٣ حدثت أزمة كبيرة سنة ١٩٧٢، بسبب إحدى مقالات «بصراحة»، قرر على إثرها السادات أن يعرض مقال هيكل على الرقيب قبل نشره، وكان المتبع منذ الرئيس عبدالناصر ألا يمر مقال هيكل على الرقيب، لم يكن ذلك امتيازًا لهيكل وتفضيلًا له بقدر ما كان يعنى أن ما سيتناوله موضع قبول ورضا مسبق من الدولة. بعض مجايلى هيكل وبمنطق «الغيرة المهنية» راحوا يهاجمون زميلهم في مجالسهم الخاصة ويبثون في تلاميذهم الحقد على هيكل، وكان المفروض أن يطالبوا بتوسيع أو تعميم ما هو مسموح به لهيكل بدلًا من السعى أو المطالبة بسحبه، كما فعل الرئيس السادات.
لم يتقبل هيكل الأمر المفاجئ، الذي يزعجه في الكتابة ويهز صورته، وهذا يجب أن يُحسب ويقدر له من العارفين بتقاليد وقواعد مهنة الصحافة، ترك ذلك وقام برحلته الشهيرة إلى الشرق الأقصى مع وفد من محررى «الأهرام». قال السادات في خطاب عام إن هيكل استأذن منه فوافق.

طوال الرحلة توقف عن الكتابة، امتناع إرادى حتى يفوت فرصة المرور على الرقيب، كانت الرحلة مهمة، أجرى خلالها عدة حوارات مهمة، خاصة في الهند وباكستان مع قائدى الحرب التي كانت بينهما، في الحوارات تشعر أن الهم المصرى ومشكلتنا بعد ٦٧ كانت حاضرة في كل سؤال: الحرب المحدودة والحرب الشاملة، التخطيط واستثمار كافة القوى والظروف لتحقيق النصر.. ورغم أهمية وعمق هذه الحوارات، اعتبرها السادات في حديث مع موسى صبرى وفى لحظة غضب «كلامًا تافهًا».

بعد رحلة الشرق الأقصى، تراجع غضب الرئيس وعاد هيكل للكتابة حتى فبراير ١٩٧٤ حين اتخذ الرئيس قراره بإبعاد هيكل عن الأهرام واستبدال كل من د.حاتم والأستاذ على أمين به.. من يومها، بدأت رحلة التربص بين السادات والأهرام كله، راح يهاجم المؤسسة كلها، يسخر من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ويسخر من الخبراء به، تهكم عليهم بأنهم «الكهنة» بدلًا من إقرار أن المؤسسة أبقى من أي شخص مهما عظم دوره وموقعه، وإذا به يشخصن المؤسسة، فتصبح الأهرام هي هيكل فقط بلا زيادة أو نقصان.

انتهت هذه الحالة أو«المعركة» بمصرع رئيس تحرير الأهرام «على حمدى الجمال».. صحيح أن الأعمار بيد الله- سبحانه وتعالى- وكل نفس ذائقة الموت، لكن كل الذين عايشوا تلك اللحظة حمّلوا السادات مسؤولية الأزمة القلبية التي أودت به. لم يكن السادات يسيطر على لسانه في لحظات الانفعال، فعلها كثيرا في خطبه العامة، لكنه فعلها وجهًا لوجه مع الرقيق على الجمال، الذي لم يحتمل قلبه الإهانة، فانفجر. في جلسة حديث مع أستاذنا الراحل مكرم محمد أحمد، قال لى حرفيًا: «هو اللى خلص عليه».

فيما يخص هيكل، ظلت علاقته بالسادات تتأرجح ما بين البعد والقرب. خطاب السادات في افتتاح قناة السويس (٥ يونيو ٧٥) كتبه هيكل.. رمزية إعادة تشغيل القناة للملاحة الدولية أن المنطقة حولها- أي شرق القناة وغربها- آمنة من احتمال نشوب صراع عسكرى حولها، والأمر المؤكد أن هيكل باعتباره صحفيا محترفًا «جورنالجى»- حسب تعبيره- يحرص على ألا تصل علاقته بمصدر إلى حد القطيعة التامة، خاصة إذا كان رئيس الجمهورية، الذي لديه كافة المعلومات وتخرج القرارات فجائية من عنده هو.. يضاف إلى ذلك أن هيكل لم يكن صحفيًا وكاتبًا فقط، بل هو بنفس القدر رجل دولة بمعنى الكلمة.

وصول العلاقة إلى حد القطيعة التامة مسؤولية الرئيس في المقام الأول.. والحق أن السادات شخصنَ كثيرا من الأمور.. بملء الفم، فشل الرئيس السادات في إدارة ناجحة لعلاقاته بأطراف كثيرة في الداخل.

وحين نتأمل المجموعة التي وقفت خلفه بقوة في أزمة ١٥ مايو ٧١، نجد أنه أبعدهم وخسرهم جميعا.. غير هيكل، هناك الفريق محمد أحمد صادق وزير الحربية، الفريق الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى، ممدوح سالم وزير الداخلية، د.محمود فوزى.. تأمل مساراتهم جميعا، راح السادات يشهّر علنا بالفريق صادق، قال ذات مرة: «لو كنت عايز أحاكمه كنت حاكمته». رمى هيكل بالإلحاد عدة مرات.. ممدوح سالم كان يترأس حزب مصر، ثم فوجئ بالرئيس يشكل حزبًا منافسًا ويسحب كل الأعضاء منه، وكان أسى ممدوح سالم أن كل هذا يتم من وراء ظهره، قال: «طب يحطنى في الصورة».

في النهاية، خسر السادات شخصيات عامةً، ما كان يجب أن يخسرهم ويعلن العداء معهم، هيكل نموذجًا، البابا شنودة نموذجًا آخر. أعرف أن هناك من ألحوا على الرئيس السادات أن يقابل البابا شنودة أو يتصل به تليفونيا لإنهاء كل الأزمات، وكان رده الرفض المطلق، بينما يهش ويبش ويسترضى مرشد الإخوان عمر التلمسانى في الإسماعيلية.

المشكلة أنه فيما يبدو كان يجيد الإنصات إلى الوشاة، كان هيكل جاره في المنزل، ولو أنه طلبه مرة وتحدث معه في بعض الأمور السياسية لتغيرت حدة المعارضة له، لكنه كان شديد العصبية، وتصرف بخوف بالغ من تقلبات مناحم بيجين، رغم أن مصر والسادات كانا في الموقف الأقوى.

هوجم هيكل من بعض زملائه بضراوة وتجريح، بزعم أنه أراد أن «يستولى» على السادات.. ولم يتوقف هؤلاء عند أن السادات فضل إدارة الحكم بما كان يطلق عليه «سياسة الصدمات»، ولم يكن مستعدًا لأن يشرح ويوضح للناس، خاصة داخل الدولة، ما يقوم به.. وبلا مبالغة، كان السادات يقفز على مؤسسات الدولة ويتجاهلها، فعل ذلك مع الخارجية المصرية.. فعليًا، ألغى فاعلية هذه الوزارة في عملية السلام منذ نوفمبر ١٩٧٧، رغم أن الوزارة لم تكن ضد السلام، وفى أزمة مايو ٦٧ كانت الخارجية ضد التصعيد، بل إنه راح يسخر ممن سماهم «الأولاد في الخارجية».

ما جرى مع الخارجية جرى مع القوات المسلحة حين اتخذ منفردا قرارا بتطوير الهجوم في ١٤ أكتوبر ٧٣ دون الرجوع إلى القادة الميدانيين وقادة الأفرع، وتكرر ذلك المشهد في اتفاقية فض الاشتباك الثانى سنة ٧٥، الأمر الذي لم يستطع المشير الجمسى معه أن يحبس دموعه، ووصل الأمر إلى حد إلغاء الرقابة الإدارية دون التشاور مع أحد. ذكر اللواء نبوى إسماعيل في حوار صحفى سنة ١٩٩١ أن السادات كان يتخذ القرار ويعلنه ثم يتشاور معهم فيه بعد الإصدار.

فيما يخص السلام مع إسرائيل، أدار السادات النقاش عبر وسائل الإعلام في الداخل، باعتبار أنه يواجه فريق دعاة الحرب.. وهكذا كان النقاش «حرب أم سلام؟» نقاشا مبتسرا. كان هناك فريق لم يكن مع الحرب مثل هيكل، إسماعيل فهمى، محمد إبراهيم كامل.. وغيرهم، ومازلنا بحاجة إلى النقاش حول السؤال التالى: هل كان ممكنا أن نحصل على سيناء كاملة غير منقوصة بتكلفة سياسية أقل؟.. لقد دفعنا الكثير سياسيًا مقابل معاهدة السلام. جرت المقاطعة العربية، الأمر الذي أفقد قوتنا الناعمة الكثير من نفوذها وتواجدها.. بعض المؤسسات القومية كان توزيعها في العالم العربى أضعافه في مصر، وبجرة قلم سحب كل هذا، مثلا كانت مجلة «الكواكب» ومجلة «حواء» توزع كل منهما في بغداد فقط وفى الخرطوم وحدها أكثر من توزيعها في القاهرة.. هذه الأسواق وهذا الحضور المعنوى فقدناه إلى الأبد.. بعد ذلك، حين عادت العلاقات العربية لم نستعد ما كان، كانت هناك بدائل ظهرت. بعض الأشياء والمعانى حين تُفقد لا تعود ثانية، فاتورة السلام لم تكن رخيصة ولا سهلة كما يتصور البعض. لا أظن أن الرئيس السادات وضع ذلك في اعتباره وقتها، لكن لا أظن أن أجهزة الدولة لم تكن تعرف، والواضح أنها لم تكن تستشار.

هل لو نجحت خطة إسماعيل فهمى والخارجية المصرية في استعادة سيناء تحت مظلة الأمم المتحدة كان سيجنبنا الكثير من الفواتير التي تحملناها؟.

هل لو استمرت سياسة الخطوة خطوة، التي اتبعت في مفاوضات الكيلو ١٠١، التي مثلنا فيها الجمسى، كان يمكن أن تصل بنا إلى نفس النتيجة، خاصة أن تلك السياسة طبقت تدريجيًا سنة ١٩٤٩؟.. هل لو ترك السادات الفرصة لرجال الخارجية يتفاوضون وهم على دراية واسعة بالقانون والسوابق الدولية، فضلًا عن غوصهم في ملابسات ما بيننا وبين إسرائيل بدلا من أن يخوض الرئيس بنفسه في تلك التفاصيل، كان أفضل له ولنا؟!.

أتصور أن هذا ما كان يسعى إليه هؤلاء الذين عارضوا بعض خطوات السادات، كانوا من داخل البيت.. أقصد من داخل نظام السادات نفسه.. لم يكونوا شيوعيين ولا عملاء موسكو- وفق تعبيره المفضل- ولا كانوا من مراكز القوى، لذا كانوا يستحقون تعاملا أفضل وأرقى. لعل بعضهم اشتط في المعارضة ولكن ربما كان السبب التجاهل المطلق لهم، فضلا عن حملات التخوين ضدهم من بعض الذين كانوا يلصقون أنفسهم بالسادات.

ومن حق الرئيس السادات علينا وعلى التاريخ أن نناقش تحركاته ومزاجه السياسى في سنة ٧٧ وما بعدها.. المؤكد أن لقاءه المباشر بالإسرائيليين كان مطروحا عليه منذ أن تولى السلطة.. كان صاحب هذا الرأى الرئيس اليوغسلافى تيتو، وكذلك الرومانى نيكولاى شاوشيسكو، لكنه رفض، ثم تكرر الطرح منهما ومن آخرين حول العالم بعد انتصار أكتوبر ٧٣، لكنه لم يستجب، كان رافضًا تماما.. هل كانت مظاهرات ١٨و١٩ يناير ٧٧ سببًا مباشرًا في تعديل اختياراته على هذا النحو المفاجئ؟!.

المشكلة أنه -رحمه الله برحمته الواسعة- لم يحتفظ برجال الدولة حوله ومعه. لم ينصت إلى المخلصين له بمن فيهم زوجته السيدة جيهان شديدة الذكاء، وفضل البيروقراطيين جدا.

الحديث ممتد..

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الصحفى ورجل الدولة الصحفى ورجل الدولة



GMT 08:07 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

دمشق وطهران والحرب الجديدة

GMT 08:06 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

«الصراع من أجل سوريا»

GMT 08:05 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غزة. غزة... بقلم «جي بي تي»!.. بقلم «جي بي تي»!

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

... أن تكون مع لا أحد!

GMT 08:02 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

غول الترمبية والإعلام الأميركي... مرة أخرى

GMT 08:01 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الصراع في سوريا وحول سوريا

GMT 08:00 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

سوريا واللحظة الحرجة!

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ترمب ــ «بريكس»... وعصر القوى المتوسطة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 04:54 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة
  مصر اليوم - الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة

GMT 10:32 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها
  مصر اليوم - ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين

GMT 11:46 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

جوارديولا يهنئ ليفربول بـ كأس الدوري الإنجليزي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon