هناك العديد من التساؤلات الملحة منذ اللحظات الأولى حول ما جرى يوم السابع من أكتوبر فى غزة، بعضها قاس وجارح.. التساؤلات فى الشارع وبين عموم المواطنين، فضلًا عن نفر من المتخصصين والمعنيين بالشأن العام، وبيننا من طرحوا تساؤلاتهم ومخاوفهم، بل شكوكهم من اللحظة الاولى، حيث كانت الفرحة طاغية بما حققته الفصائل من مساس بهيبة وسمعة جيش الدفاع الإسرائيلى، لكن حرمة الدماء والأرواح البريئة ومهابة القضية الفلسطينية جعلتنا نؤجل طرح تلك التساؤلات، ذلك أن مقاومة المحتل واجب وطنى وإنسانى، الأولوية لوقف الدم النازف وإطفاء الحريق المشتعل.
لنتذكر ما حدث فى اجتماع نقابة المهن السينمائية للتضامن مع الشعب الفلسطينى، حيث حاول المخرج الكبير مجدى أحمد على طرح بعض التساؤلات والشكوك فجوبه بعبارة «مش وقته».
لكننا وجدنا بعض هذه التساؤلات، فى الأسابيع الأخيرة، تُثار وتُطرح على الملأ، وهناك إجابات قدمت لدى عدد من المسؤولين الفلسطينيين الكبار، لا غرابه فى ذلك؛ هم الطرف الأول، ربما الأكثر إدراكًا لكثير من الخبايا ولأن أيديهم فى النار، فضلًا عن أن الحرب طالت بأكثر مما هو معتاد فى الاشتباكات أو الحروب مع إسرائيل. فداحة الخسائر فى الشعب الفلسطينى على كافة المستويات، جعلت طرح الأسئلة ضروريًا، بات الصمت أو التحسب رفاهية أو حذرا لا تحتمله اللحظة.
من ذلك مقال نشره السفير الفلسطينى لدى كوت ديفوار «عبد الكريم عويضة» فى جريدة العرب- عدد ٣٠ يناير الماضى- بعنوان «محاولات لفهم ما جرى».
ما ورد فى المقال يقترب مما جاء على لسان الوزير الفلسطينى السابق حسن عصفور فى حوار معه نُشر فى القاهرة بجريدة «الوطن»، يوم الثلاثاء ٦ فبراير، أجراه الزميل الأستاذ عادل الدرجلى.
أهمية حسن عصفور ليست فقط فى المناصب الوزارية العديدة التى شغلها فى السلطة الوطنية، لكن فى أنه كان المفاوض البارز مع الإسرائيليين فى محادثات أوسلو «السرية». سبق أن التقيته وحاورته لمجلة «المصور» بعد اتفاق أوسلو مباشرة. صحفيا هو مصدر، صريح ومباشر، يصل إلى ما يريد بأقصر العبارات.
السفير الفلسطينى وضع احتمالين لتفسير ماجرى، يكمل كل منهما الآخر.
الأول أن المخابرات والأجهزة الأمنية والحكومة الإسرائيلية كذلك، مرروا عملية السابع من أكتوبر قصدا للخروج من الأزمات السياسية الداخلية التى هددت لأول مرة بعض ثوابت الوجود الإسرائيلى، حيث صار هناك خلاف حاد يهودى/ يهودى. يلتقى مع ذلك رغبة إسرائيلية فى عرقلة مشروع التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وهذا هو الاحتمال الثانى، لأن المملكة وضعت شرطا لازمًا قبلت به أو تفهمته الإدارة الأمريكية، الإدارة راحت تضغط على حكومة نتنياهو للاستجابة، وهو ضرورة إقامة دولة فلسطينية، حكومة نتنياهو تريد «التطبيع للتطبيع».
وهنا نلاحظ تسريبات عديدة من الجانب الإسرائيلى حول أن التطبيع مع المملكة بات قريبًا جدا جدا، وأنه سيكون وفق أجندة حكومة نتنياهو، وكأن القصد هو استفزاز الفصائل التى ترى فى التطبيع خطرا وجوديًا عليها وعلى القضية. حماس اعتبرت نجاح المسعى السعودى يصب بالأخير فى مشروع أوسلو والسلطة الوطنية الفلسطينية، أرسلت المملكة العربية السعودية سفيرًا لها إلى رام الله، لذا سارعت لإجهاض هذا المسار، وهنا يبرز دور طرف إقليمى لا يريد للدور وللعلاقات السعودية/ الأمريكية أن تتعاظم.
حسن عصفور فى حواره، كان أكثر مباشرة، بالتعبير المصرى «دوغرى»، قال «كانت لديهم معلومة بأن حماس تخطط لهجوم، فكان موقف إسرائيل أنها سهلت العملية، بدلًا من أن يمنعوها، فتحوا الطريق لها». يقول أيضا «معلومة الهجوم كانت موجودة لدى المخابرات الإسرائيلية التى سهلته»، ويقطع حسن عصفور أن لدى إسرائيل عملاء نافذين داخل كل الفصائل، فضلا عن عملائها الذين ينقلون إليها كل ما يجرى، تفاصيل التفاصيل.
شواهد عديدة ذكرت من داخل إسرائيل تؤكد أن المعلومات كانت لديهم وأنه كان هناك تباطؤ لعدة ساعات فى الرد، حوالى ست ساعات ولم يتحرك الطيران الإسرائيلى، ثم بدأت حملة دعائية مكثفة عن قطع رؤوس أطفال فى المستوطنات واغتصاب السيدات وغير ذلك، كان المخطط خلق هستيريا أو هولوكوست جديد، يقع فى غزة.
فى الأيام الأولى تكوّن ذلك المناخ وظهرت على الفور مقولة «حق إسرائيل المطلق فى الدفاع عن نفسها»، رددها الرئيس جو بايدن وغيره من القادة الكبار فى أوروبا، على المستوى الرسمى ما زالت تلك المقولة قائمة، لكنها على مستوى الشارع والرأى العام تراجعت كثيرا، بل انقلبت.
طبقا لتصور الوزير والسفير، فإن حماس والفصائل، ليست متهمة، لكنها ابتلعت طعمًا ألقى إليها بإحكام من الجانب الإسرائيلى، لكنها ليست بريئة تماما، جزء من هدف العملية الإطاحة النهائية بالسلطة الوطنية.
فى المحصلة النهائية يذكر حسن عصفور «كانت عملية ٧ أكتوبر بمثابة إنقاذ للكيان الإسرائيلى من الانهيار وأدت إلى مؤامرة انهيار كيان آخر هو الكيان الفلسطينى». العبارة الأخيرة تلخص كل شىء.
هل نحن بإزاء فصل من فصول «لعبة الأمم»، يحدث على حدودنا، وربما نكون نحن المستهدف الرئيسى به، الهدف من لعبة الأمم السماح بصراعات ومعارك محدودة فى بعض المناطق تتجنب بها القوى العظمى خوض حرب عالمية جديدة.
فور أن نفذت القوات الأمريكية غارات على مواقع للحوثيين فى اليمن صدر تصريح أمريكى، على أرفع مستوى، يفيد أن الولايات المتحدة نبهت الحوثيين قبل إتمام الغارة بأنها ستقوم بها وحددت لهم الأهداف المقصودة، باختصار تم تفريغ المواقع، حتى تقع الغارات بسلام، أمام الرأى العام الأمريكى والعالمى فإن القوة العظمى اتخذت الرد السريع والحازم، عمليًا لم يحدث شىء كبير.
ألا يحق لنا أن نتساءل هل حدث الشىء نفسه من الجانب الحوثى أو رعاته قبل الشروع بعملياتهم فى البحر الأحمر؟، هل تطوعت الإدارة الأمريكية بإبلاغ «الخصوم» كرما وإنسانية أم هى أصول اللعبة وقواعد المعاملة بالمثل ورد التحية بمثلها، لن أقول أحسن منها؟.
وفق سوابق السياسة الدولية وصراعات لعبة الأمم، ناهيك عن بعض الشواهد، فإن ذلك ليس مستبعدا، عبر القنوات المباشرة أو غير المباشرة.
هنا يسعفنا الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، الذى تحدث مؤخرا عن عملية اغتيال القائد الإيرانى قاسم سليمانى، يناير سنة ٢٠٢٠، أشار إلى أن «بيبى» تراجع قبل يومين من إتمام العملية عن المشاركة فى تنفيذها رغم أنهم شاركوا فى جمع المعلومات والتخطيط، باختصار نتنياهو لا يريد الدخول فى احتكاك كبير ومباشر مع إيران، مسموح بسياسة عض الأصابع والأطراف فقط، دون هجوم عميق، دعك من بعض التصريحات العنترية التى تصدر أحيانًا على الجانبين، وقال ترامب إن إيران ردت على عملية الاغتيال بغارة على موقع لهم فى العراق، لكن تم إبلاغهم بالعملية قبل وقوعها بوقت كاف وتم كذلك إبلاغهم بالموقع المستهدف، فتمت بأقل قدر من الخسائر. نحن هنا بإزاء انتقام متفق عليه، آمن إلى حد كبير، لكن يحفظ لكل قوة هيبتها أمام جمهورها.
هكذا لعبة الأمم، لا شىء بالصدفة، كل أمر مرتب ومنسق من قبل، دعنا الآن من الضحايا الأبرياء الذين يسقطون فى هذه اللعبة، هؤلاء يدخلون فى باب الخسائر «المسموح» بها، كى لا نقول المتفق عليها. نلاحظ هذه المرة عدم انزعاج شديد لدى الحكومة الإسرائيلية من سقوط ضحايا مدنيين لهم، وكذلك تراخى القلق- رسميا- من وجود رهائن لدى حماس، بعض الاتجاهات المتشددة هناك لا ترى بأسًا فى التضحية بهؤلاء الرهائن مقابل إنهاء الوجود الفلسطينى فى غزة، يذكرنا هذا الأمر بلعبة تجار المخدرات الكبار مع رجال البوليس فى أفلام السينما، التضحية بالصبيان الصغار وقت اشتداد المواجهات.
حتى الآن، نجد أن ردود الأفعال بالنسبة للأذرع أو ما يسمى «وحدة الساحات»، منضبطة ومحسوبة بدقة، مكانا وزمانا، قادة حماس والفصائل بعيدون عن مرمى الجيش الإسرائيلى، حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد، استدعيت إلى سواحل إسرائيل من البداية لضمان أن لا تخرج العملية «عن السيطرة» وتظل فى إطارها القائم، بعض المسؤولين الإسرائيليين تحدثوا صراحة عن إمكانية التعامل نوويا مع غزة، فى رسالة مقصودة لمنع أى طرف فى المنطقة من التدخل عسكريا وبشكل مباشر.
وأظن أن الرسالة كانت كذلك إلى الولايات المتحدة بأن لا تضغط عليهم أو تطالبهم بالتوقف عن ضرب الفلسطينيين أو السماح لمجلس الأمن باتخاذ قرار ملزم بوقف إطلاق النيران، وربما الضغط بعدم تقديم المساعدات الحربية والمالية. الواضح أن الرسائل المقصودة وصلت الجميع. حتى الآن الولايات المتحدة تطالب فقط بالحد من الخسائر فى صفوف المدنيين الفلسطينيين.
فى كل ذلك المستباح- على نطاق واسع- هم المدنيون الفلسطينيون فى غزة، الواضح أنهم فى بند الخسائر المسموح بها وفق «لعبة الأمم». لكن الخسائر أفدح وأوسع من ذلك.
الحديث متصل.