كشفت حرب الأكثر من مائة يوم فى غزة أننا نعيش نقصًا هائلًا فى معرفتنا بالدولة العبرية وما يجرى داخلها، التيارات السياسية والفكرية، تركيبة المجتمع، وضع العرب داخل هذا المجتمع، نقص المعرفة نتيجة عدم اهتمام، بالأحرى لم يصبح الشأن الإسرائيلى والشأن الفلسطينى كذلك من أولويات الاهتمام أو القلق بالنسبة لنا، وربما استنمنا إلى بعض تصورات مغلوطة، أهمها أن إسرائيل تسعى إلينا، وتلح على التطبيع، يأتون إلينا، ويتمنون أن نذهب إليهم، بينما نحن، الأغلبية، نمانع، وفينا مَن يتمنع، وإن كان راغبًا. السعى الإسرائيلى نحو التطبيع تُرجم لدى البعض بأنه رغبة فى السلام، وقد يكون ذلك صحيحًا لدى فريق منهم، لكن هناك الفريق الآخر، الذى نراه واضحًا فى أطياف الحكومة الإسرائيلية الحالية.
عدم الاهتمام أو استشعار الخطر كاحتمال جعلنا لا نسعى نحو معرفة ذلك المجتمع وتلك الدولة، المعرفة ضرورة إنسانية وحق كذلك، هنا أقول إنها واجب وطنى. المعرفة مهمة فى علاقات الصداقة والتعاون كما هى بنفس الأهمية فى حالات العداء أو الخلاف.
فى معظم صحفنا ومجلاتنا أُلغيت المساحات التى كانت مخصصة للشأن الإسرائيلى، كان مركز الدراسات السياسية بـ«الأهرام» يصدر مطبوعة شهرية متميزة حول الدراسات الإسرائيلية، كانت تضم مقالات ودراسات من داخل إسرائيل مترجمة إلى العربية، لكن توقف ذلك الإصدار، كانت الهيئة العامة للاستعلامات تفعل شيئًا مشابهًا، ناهيك عن بعض الدارسين والكُتاب الكبار الذين تخصصوا فى هذا الشأن، الراحل الكبير د. عبدالوهاب المسيرى نموذجًا.
لم يكن «المسيرى» بداية، بل كان يسير على طريق طويل من تقديم المعرفة لعموم المواطنين، بدأ هذا الطريق منذ نهاية القرن التاسع عشر.
منذ حوالى ربع القرن، كنت أعمل على كتاب أصدرته بعنوان: «المفكرون العرب والصهيونية وفلسطين»، وتبين لى أن الصحافة المصرية كانت تمتلئ بالأخبار والمقالات حول مستقبل فلسطين وتزايد الهجرات اليهودية إليها، كُتاب كبار، مثل الأمير شكيب أرسلان والشيخ رشيد رضا وشبلى شميل وغيرهم، تناولوا تلك القضية فى مقالاتهم وكتاباتهم الصحفية.
فى فترة لاحقة، وقبل الحرب العالمية الأولى مباشرة، زار المؤرخ والرائد، مؤسس الهلال «جورجى زيدان» فلسطين، وتجول فى أنحائها، هنا كان محققًا صحفيًّا نابهًا، ونشر فى مجلة الهلال دراسته المبكرة «الصهيونية.. تاريخها وأعمالها»، وعلى هذا النحو توالى الاهتمام.
مع اقتراب الحرب العالمية الثانية من نهايتها، وبعد أن بدا أن قيام إسرائيل بات قريبًا، نشط الكُتاب والمفكرون، عميد الأدب العربى د. طه حسين يكتب محذرًا، وعشية تأسيس الجامعة العربية، يعتبر أن وجود الجامعة رهن بما ستقوم به فى تحرير فلسطين والحفاظ عليها.
الأستاذ «عباس العقاد» يزور فلسطين، يحاور أعيانها ورموزها، كما يلتقى بعدد من الإسرائيليين، يناقشهم، يسمع منهم، ويكتب مناديًا العرب جميعًا إلى دعم حيفا أمام تغول «تل أبيب»، ثم يواصل الكتابة فى هذا الشأن.
أستاذ الجغرافيا د. محمد عوض محمد يصدر، سنة ١٩٤٦، دراسة مهمة فى الأنثروبولوجيا الثقافية، يثبت فيها أن اليهود الذين جاءوا إلى فلسطين لا صلة لهم ألبتة بيهود بنى إسرائيل، الذين تحدثت عنهم الكتب السماوية، حملت الدراسة عنوان «المسألة الصهيونية فى نظر العلم»، طُبعت مرة واحدة، على نفقة جامعة الدول العربية، ثم يتبعه المؤرخ د. محمد رفعت بكتاب «قضية فلسطين»، الذى صدر ضمن سلسلة «اقرأ» الشهيرة، وهكذا الحال وصولًا إلى حرب فلسطين الأولى سنة ١٩٤٨ أو «عام النكبة»، ثم تواصل الأمر على هذا النحو.
حين وقعت هزيمة يونيو ٦٧، وجدنا نشاطًا هائلًا فى هذا الجانب، تحت شعار «اعرف عدوك»، سلسلة كتب تصدر بانتظام وبرنامج فى الإذاعة المصرية، ثم تأسس مركز الدراسات فى مؤسسة الأهرام، كان اسمه الأول مركز الدراسات الفلسطينية، وقف خلف هذا المركز فى البداية محمد حسنين هيكل بكل ثقله ورمزيته فى الدولة المصرية، من خلال هذا المركز تحول اهتمام د. المسيرى من تخصصه الدقيق فى الأدب الإنجليزى بجامعة عين شمس إلى دراسة الصهيونية وإسرائيل، كان المسيرى واحدًا ضمن فريق عمل كبير من الباحثين والكُتاب.
بعيدًا عن مركز الأهرام، كان هناك العديد من الأكاديميين والكُتاب، من عدة أجيال، مثل حامد ربيع وحسن ظاظا ورشاد الشامى وإبراهيم البحراوى، وجدنا كذلك مركز الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة ودراسات د. محمد خليفة حسن، فى جامعة عين شمس مركز دراسات الشرق الأوسط، ثم مع دخول مرحلة التطبيع وقضايا السلام، خاصةً بعد توقيع أوسلو سنة ٩٤، تراجع الاهتمام، وكان لسان الحال: هل نكون ملكيين أكثر من الملك نفسه؟.
فى نهاية سنة ٢٠٠٩، توليت مسؤولية النشر فى الهيئة المصرية العامة للكتاب، وبادرت بالاتصال بعدد من المتخصصين فى اللغة العبرية، وطلبت من الراحل د. منصور عبدالوهاب، الأستاذ بجامعة عين شمس، أن يُعد لنا دراسة عن فتاوى المتطرفين فى إسرائيل نحونا. كانت الصحف الإسرائيلية تبرز آراء بعض السلفيين المصريين وحديثهم عن «أبناء القردة والخنازير»، وتتجاهل الأفكار والفتاوى العدائية نحونا، وهكذا أعد كتاب «فتاوى حاخامات إسرائيل»، وفيه رصد ما يصدر هناك، وبعضهم كانت له صفة رسمية. كانت بها أفكار وآراء مخيفة تتحدث عن ضرورة إبادة العرب، وفيما يخص مصر والمصريين، حدِّث، ولا حرج. نجح الكتاب، لكن تلقيت امتعاضًا من البعض والاتهام بمحاولة تأجيج صراعات انتهت، ولم يسلم المؤلف من بعض المؤاخذات الرسمية، كان مناخ التهدئة والتطبيع هو السائد.
ثم أهَلّت علينا حقبة «الربيع العربى». تراجع أو نُسى الشأن الإسرائيلى، رغم إلقاء القبض على ضابط إسرائيلى من الموساد، هو «إيلان جرابيل»، كان فى ميدان التحرير، يناير ٢٠١١، وكان يتردد على جامع عمر مكرم. اعتبر بعض «الثوار» أن إلقاء القبض على الثائر إيلان تشويه للثورة والثوار. الحمد لله أنهم لم يطالبوا بمنحه جائزة الدولة، وقتها أغرقنا الإعلام الغربى وسياسات الإدارات الأمريكية فى هموم وأولويات أخرى.
وهكذا جاءت أحداث السابع من أكتوبر لتكتشف الكثير والكثير مجددًا، وندرك هذا النقص المعرفى الهائل فى ثقافتنا العامة.
أثق أن مؤسسات الدولة وأجهزتها المعنية بشؤون الأمن القومى لديها الكثير من المعلومات والمعارف والأفكار، لكننى معنى بالمعرفة والثقافة العامة، أى لدى عموم المواطنين، والتى تسهم فى بناء وتكوين الرأى العام، المعرفة حق عام، فى دستورنا الحالى هى حق دستورى لا يجوز التقاعس عن أدائه.
أثبتت الحرب الأخيرة أن مصر، رغم توقيع الرئيس السادات معاهدة السلام مع إسرائيل منذ سنة ٧٩، ليست بعيدة عن الصراع، بل هى فى بؤرته. دراسات إسرائيلية عديدة تتحدث منذ سنوات بعيدة عن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو مناطق أخرى فى مصر، ولا أفهم لماذا لم تُترجم مثل هذه الدراسات إلى العربية، ولماذا لم يتم تناولها والتركيز عليها إعلاميًّا وثقافيًّا، حتى الأحزاب التى تمتعض من السلام مع إسرائيل لا تبذل جهدًا، ولا تقوم بدور كبير فى ذلك، وتكتفى بالهتافات والشجب التقليدى.
من واجب الأحزاب أن تكون لديها مراكزها البحثية والمعرفية، التى تعمل وفق الأسس العلمية المعروفة، وفى إطار القانون، فى القضايا التى تتعلق بالمصير الوطنى.
نعم، وقّعنا معاهدة السلام، المعاهدة أعادت إلينا ما لم نكن قد استعدناه من سيناء، وأنهت حالة الحرب مع إسرائيل، لكن المعاهدة لم تُنْهِ المشروع الصهيونى ولا الأطماع الإسرائيلية وأحلام إسرائيل بالنسبة لدول الجوار، بدا ذلك واضحًا تمامًا فى الحرب الأخيرة، وحين تقع الحرب على حدودنا من المؤكد أن بعض شظاياها وآثارها تمتد نحونا، أبينا أو شئنا.
هل آن الأوان أن نُعيد الروح إلى المراكز البحثية لدينا فيما يخص تلك القضية، وهل نطمح فى تأسيس مركز أو مراكز جديدة، تعمل على دراسة الشأن الفلسطينى جيدًا وكذا الشأن الإسرائيلى، تقدم لنا «أطلس» بالمجتمع الإسرائيلى، اليهود من أصول عربية.. عرب ٤٨ داخل إسرائيل، تكوينهم السياسى والاجتماعى، المؤسسة الحاكمة فى إسرائيل وغير ذلك؟.
كان لافتًا أن إسرائيل، فور تأسيس علاقتها السياسية معنا، أسست المركز الأكاديمى الإسرائيلى فى القاهرة، وآخر فى الإسكندرية، وبكل منهما مكتبة تستقبل الباحثين والدارسين وكذا القراء المصريين، ولا أعرف أننا فعلنا الشىء نفسه هناك.