فى عام ١٩٠٦، تم تعيين مرقس سميكة عضوًا فى مجلس شورى القوانين، يمكن أن نعتبر المجلس برلمان تلك الفترة من تاريخ مصر السياسى، كان فى المجلس عدة مقاعد مخصصة للأقباط، وحدث أن خلا أحد هذه المقاعد بوفاة «باسيلى تادرس»، وحين يكون هناك موقع واحد أو أكثر يتم تخصيصه، فى مؤسسة أو هيئة ما، لفئة بذاتها، مهنيًّا أو مجتمعيًّا وطائفيًّا، فمن الطبيعى أن تكون هناك منافسة بين أفراد تلك المجموعة أو الفئة.
وقد تخرج المنافسة عن حدود الطموح المقبول والأساليب النزيهة والأمينة، وتتحول أحيانًا ومع بعض الأفراد إلى نوع من المكايدة والطعن أو ما يسمى الضرب تحت الحزام والاغتيال المعنوى والأخلاقى، وتنطلق الحكايات حول تدخلات هنا أو وساطات هناك وشفاعات و.. و.. و.. يجب ألا نُفاجأ كثيرًا ولا أن نندهش من ذلك، سواء وقع بالفعل أو كان مجرد خيالات، بل تشنيعًا، على كافة المستويات وفى سائر المجتمعات والفئات، قديمًا وإلى يومنا هذا.
وهكذا كان مصير «مرقس سميكة»، كما أورد فى مذكراته، حول كل المواقع التى يتم الاختيار فيها على هذا النحو، وكان هو طرفًا فيها، فى أكثر من مرة، أطاحت به المكائد، وتعرض لحملات من قطع الطريق أمامه ومن أناس لم يكن قد صدرت منه أى إساءة نحو أى منهم.
فى حالة مقعد مجلس شورى النواب، كان الخديو عباس حلمى ومعه بطرس باشا غالى، وكان لا يزال ناظرًا (وزيرًا)، يرغبان فى تعيين إسكندر فهمى، بينما دار المعتمد البريطانى، وعلى رأسها الاستعمارى العتيد لورد كرومر، تريد مرقس سميكة، كانت تلك سنوات التضاغط بين قصر عابدين، حيث الخديو، وقصر الدوبارة، حيث اللورد، وبحكم القوة كان اللورد هو صاحب الكلمة النافذة، هنا كان سميكة فى موقف حرج، خاصة أن منافسه قوى، وله أنصار كثر، خاصةً وجهاء الأقباط، لا بين الشخصيات المهمة إسلاميًّا، فضلًا عن الخديو شخصيًّا والحاشية.
لذا قرر أن يزور بطرس غالى، وكان حرفيًّا عميد أو عمدة الأقباط، ليأخذ رأيه، ويعرض أن ينسحب تمامًا لصالح منافسه، هكذا يرد فى الكتاب، ولا نتصور أنه كان جادًّا فى مسألة الانسحاب، من المستبعد أن قصر الدوبارة لم يُطلعه على الأمر بطريقة ما، قبل إعلان الاختيار، وربما أراد هو فى أعماقه أن يطرح الانسحاب كى ينال مباركة بطرس باشا، وأن يستميله إليه، على الأقل لا يبدو فى موقف التحدى للخديو وله. وإذا كان الخديو ينحاز إلى إسكندر باشا، فإنه يريد أن يكون موضع القبول والرضا، باختصار إذا كان كرومر قد اختاره هو، فلا يجب أن يُفهم ذلك على أنه فى الضفة الأخرى من الخديو وجناحه.
وحتى لا يتعجل بعضنا إلى اتهام الرجل فإن كرومر وقتها كان الحاكم الفعلى، وكانت الوظائف والمناصب الكبرى، فيما عدا المواقع فى المؤسسات الدينية، تصدر بموافقته مباشرة، على الأقل عدم اعتراضه. لذا كان كثيرون من كافة الأطراف يسارعون نحو قصر الدوبارة ومسؤوليها.
تمت المقابلة، وكما وصفها فى مذكراته، كانت «خاصةً وسرية»، وكانت إيجابية للغاية، لا يذكر أين جرت ولا كيف ومَن قام بترتيبها، ولعله جعلها سرية حتى لا يتسرب أمرها إلى دار المعتمد، وكانت عيونه فى كل مكان.
نصحه العميد بالقبول لأن لورد كرومر يصر عليه، وأنه سوف يعينه كذلك عضوًا فى «مجلس المعارف الأعلى».
كان كرومر يصر على أن يظل الرجل الأقوى، ويريد حرمان الخديو من وضع رجاله أو مَن يثق بهم فى المواقع المهمة، كانت النصيحة من رجل فى وزن بطرس غالى تعنى أن الخديو لن يدخل فى صراع مع اللورد كرومر حول هذا التعيين، ولن تكون هناك مشكلة فى ذلك الأمر، صحيح أن الخديو أراد غيره، لكن فيما يبدو لا مأخذ لديه على مرقس، وهكذا تم تنفيذ القرار.
كان مجلس شورى النواب قد تأسس فى عهد الخديو إسماعيل، فى إطار مشروع تحديث مصر وجعلها «قطعة من أوروبا»، وكان مجلسًا استشاريًّا، وبعد الاحتلال البريطانى بسنة، حدث تعديل، وصار البرلمان من غرفتين، الأولى باسم «مجلس شورى القوانين»، ويتكون من ثلاثين عضوًا، بينهم (١٦) عضوًا بالانتخاب والباقى (١٤) عضوًا بالتعيين، وبحكم عضوية سميكة بالمجلس اختير عضوًا كذلك فى مجلس المعارف الأعلى.
كان سعد زغلول هو أول رئيس لمجلس المعارف بحكم أنه كان ناظر- (وزير)- المعارف. كان (دنلوب)، مستشار النظارة، عضوًا بالمجلس، دنلوب صاحب السمعة السيئة فى تاريخ التعليم، حيث عمل على «نجلزة التعليم»، كان فى المجلس عدد آخر من الإنجليز، بالإضافة إلى اثنين من النظار، هما حسين رشدى وإسماعيل سرى، وثلاثة من شورى النواب بينهم، بالإضافة إلى سميكة، ومحمد علوى باشا، الذى سيتولى فيما بعد مجلس الجامعة المصرية، وهو مَن سيوافق على ابتعاث طه حسين إلى فرنسا، وتحمّل هو نصف تكاليف البعثة من ماله الخاص، كان «علوى» طبيب عيون ناجحًا، وهو مَن تولى علاج الأميرة فاطمة إسماعيل، ابنة الخديو إسماعيل، عمة عباس حلمى، وطبقًا لمذكرات سميكة، فإن طبيب العيون هو مَن أقنع مريضته الأميرة بدعم الجامعة المصرية فى بداية التأسيس، فقدمت لها الأطيان والمال والمجوهرات بما لعب دورًا حاسمًا فى إنشاء ذلك الصرح العلمى/ الوطنى، الذى نعتز به إلى يومنا هذا.
فى مجلس المعارف الأعلى، كانت هناك روح، يمكن أن نعدها ديمقراطية فى النقاش واتخاذ القرارات. فى مذكراته، يورد سميكة موقفًا مع سعد زغلول، حيث تقدم سعد باقتراح احتساب درجات مادة الدين ضمن الدرجة النهائية للتلميذ، مازال هذا الاقتراح يظهر بين حين وآخر لأسباب ودوافع عديدة، فى تلك الفترة من مطلع القرن العشرين، كانت مادتا اللغة العربية والدين جزءًا وتعبيرًا عن رفض سياسة وخطة دنلوب لجعل التعليم فى مصر إنجليزيًّا بالكامل، ليس لغة فقط، بل المضمون والجوهر.
فى اليوم السابق لانعقاد الجلسة المخصصة لمناقشة الاقتراح، أبلغ سميكة سعد زغلول أنه سوف يعترض على اقتراحه المقدم.
لم يحضر سعد الاجتماع، وفوض حسين رشدى فى إدارة الجلسة. طبقًا لكتاب مرقس سميكة، فإن سعد اعتذر لأنه كان «يضيق بالمناقشات، ويُستثار بسهولة»، لكن يمكن تفسير الأمر على نحو آخر، وهو أن سعد (باشا) أراد تجنب الدخول فى خلاف من هذا النوع، خاصةً أنه الرئيس، وهو مَن سيوقع القرار فى النهاية، وربما رأى فى حضوره ضغطًا معنويًّا على أجواء النقاش وأطرافه، وأنه سوف يكون الخصم والحَكَم، فتنحى عن رئاسة الجلسة استشعارًا للحرج وليس تهيبًا للنقاش. كان سعد محاورًا ومجادلًا طويل النفَس.
دار الحوار بين رشدى ومرقس فى البداية على نحو به تخوف وحذر من مظنة الطائفية أو التعصب، الوزير حسين رشدى، (رئيس الوزراء فيما بعد)، يعلن أن الحكومة وحدها لها حق إقرار ما يتعلق بالدين الإسلامى، فيرد عليه سميكة بأن الحكومة «مصرية، ملزمة برعاية مصالح جميع رعاياها سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهودًا».
رد سميكة يزعج الوزير، الذى يسارع إلى أن ينفى عن نفسه التشدد: «لا تنظر إلىَّ كشخص متعصب». هنا بدا كما لو أن كلًّا منهما يغمز الآخر.
ينفى سميكة أنه يتهم أو يعتبر رشدى باشا متعصبًا، كما أنه هو نفسه ليس كذلك، ويفسر اعتراضه على الاقتراح بأنه يظلم التلميذ المسلم، ويجعله فى موقف ضعيف إلى جوار زميله المسيحى، ذلك أن الطالب المسلم يمكن أن يكون ضعيفًا فى مادة الدين، فيتخلف عامًا، حتى لو كان مستواه متميزًا فى سائر المواد، بينما يسبقه زميله المسيحى، حتى لو كان أضعف منه، لأنه معفى من درجة مادة الدين.
على هذا النحو دار النقاش، وانتهى الأمر بأن سحب سعد زغلول اقتراحه.
هنا يدرك كل أطراف النقاش أهمية مدنية الدولة والحكومة، وهذا ما جعل كلًّا منهم يعبر عن نفسه وما يريده دون أن يتحسس أحدهم رأسه، تمتعوا جميعًا بروح المواطنة والمدنية، وكانوا على قدر كبير من الشجاعة الأدبية والنزاهة الفكرية.
كان سميكة مهتمًّا بالتعليم عمومًا، خاصة التعليم الفنى وكذلك التعليم الدينى، وفى مجلس شورى القوانين تقدم باقتراح أن يدرس الطالب المسيحى نصوص الكتاب المقدس فى مادة الدين، إذا أراد ذلك.
طُرح الاقتراح للنقاش العام، وكانت المفاجأة الصادمة له أن زملاءه الأقباط صمتوا عن الاقتراح الذى وجد معارضة شديدة. بين الصامتين كان الأنبا يؤنس، البطريرك يؤنس التاسع عشر فيما بعد، بطريقته الحادة وكلماته التى تأتى قاسية أحيانًا، يتهم الزملاء الأقباط بافتقاد الشجاعة لدعم الاقتراح، ويشير إلى نفاق أحدهم، كان قد أشاد برفض الاقتراح. فى النهاية، وبعد نقاشات مطولة، يذكر أنه تم إقرار المقترح، وصار من حق الطلاب غير المسلمين دراسة نصوص الكتاب المقدس فى مادة الدين، إذا رغبوا.