على حدودنا الجغرافية نيران، متقدة حينًا وخابية حينًا آخر، لكنها قائمة دائمًا وجاهزة للاشتعال فى أى لحظة، الفتيل والزيت وأدوات الحريق جاهزة، كل حدودنا تقريبًا وليس حدًّا بعينه، وكان هذا العام (٢٠٢٣) كبيسًا فى لهيبه ونيرانه، التى أُوقدت ومازالت، مريرًا فى ضحاياه ونتائجه. فى زمان فات كان الحريق إذا اشتعل يجد مَن ينادى ويسعى للإطفاء.
حرائق زماننا ليس هناك مَن يريد صدقًا إطفاءها إلا القليلون للغاية. حريق أوكرانيا يستعد لدخول عامه الثالث، حرائق السودان الشقيق تتم هذا الأسبوع الشهر الثامن، شعار أيامنا خفض العنف، هدنة إنسانية محددة المدة والمكان، السعى لتقليص أعداد الضحايا من المدنيين، لكن لا توقف للنار، التى تحصد أولًا الآدميين الأبرياء، الذين لم يؤخذ رأيهم فى قرار النار، ولا يأبه نافخو النيران بمصيرهم فى أى شىء.
فى منتصف إبريل الماضى، اشتعلت حدودنا الجنوبية بوقوع القتال الضارى بين طرفين من أبناء السودان، وكان تدفق الأشقاء المتخوفين، المهددة حياتهم بالفعل نحونا، عبر المنافذ المتاحة، وكان لابد من فائض جهد ويقظة وحذر للتعامل مع ذلك الاشتعال، الذى مازال متقدًا إلى يومنا هذا.
على حدودنا الغربية، خطر آخر، اقتضى أن يذهب القائد الأعلى للقوات المسلحة بنفسه إلى هناك فى يونيو سنة ٢٠٢٠ ويعلن خطوط مصر الحمراء. قبل ذلك الإعلان كانت بعض الميليشيات التى تسللت إلى ليبيا قد أعلنت نيتها اختراق الحدود المصرية والزحف علينا إلى الداخل، حيث العاصمة لاستكمال مشروعها الإرهابى، فضلًا عن مئات من عمليات اختراق وتجاوز حاولت عناصر ومجموعات إرهابية القيام بها. وتمكنت قواتنا من التعامل معها وإجهاضها.
أما حدودنا مع فلسطين فى الشمال الشرقى فهى ملتهبة منذ عملية السابع من أكتوبر التى نفذتها المقاومة الفلسطينية، لكن فعليًّا تلك الحدود ملتهبة طوال الوقت، لا تهدأ أبدًا، جرت محاولة اجتياحها فى عام ٢٠٠٨، وهى مهددة الآن أكثر، مطلوب تأمينها وحمايتها. على الجهة الأخرى مَن يريد التهامها، وما بين الحماية الوطنية والواجب الإنسانى نقف، فى هذه المسافة من تقاطع وتضارب الواجبات علينا أن نتحرك، وهناك دائمًا مَن يصر على الخلط، تحقيقًا لأهداف أو مشروعات خاصة، وفى كل الأحوال لن نسلم من ابتذال المزايدات وترخُّص الابتزاز.
حين وضعت الدولة المصرية بعض الضوابط على حدودنا الجنوبية مع أزمة السودان، تعرضت للهجوم والانتقاد الضارى وسيل من الأخبار الكاذبة، عنصرية المحتوى، كانت الضوابط تهدف إلى منع تسلل بعض العناصر الإرهابية إلى الداخل المصرى، خاصة أن عددًا من التنظيمات الإرهابية تمركزت فى بعض مناطق السودان الشقيق منذ التسعينيات، وتكرر ت الانتقادات مع حرب غزة، حين أعلنت الدولة أن معبر رفح مفتوح فقط لدخول المساعدات واستقبال المصابين، لكن ليس مفتوحًا لنزوح جماعى ولا تهجير قسرى لأهل غزة بما يفرغها من مواطنيها ويسلمها سائغة، خاوية للمستوطنين، بما يُسقط الحق والوجود الفلسطينى نهائيًّا.
يمكننا القول إن حماية وتأمين الحدود واجب كل دولة فيما يخصها، لكن حدودنا المصرية كانت مصدر تهديد وخطر علينا طوال التاريخ، نادرًا ما كانت تهدأ جميعها، يُضاف إليها أن البحر المتوسط نفسه، حدنا الشمالى، كان هو الآخر مصدر خطر فى أوقات عديدة، لنتذكر الحملات الصليبية وحملة نابليون ثم فريزر من بعده بتسع سنوات وبعدهما بعدة عقود حملة الجنرال سيمور وضرب طوابى الإسكندرية زمن ثورة عرابى.
هل لنا بعد ذلك أن نتحدث مع المفكر الراحل د. جمال حمدان عن «عبقرية المكان»؟. الأدق أننا بإزاء ما يمكن أن نطلق عليه «لعنة المكان»، تحدث بعض المهتمين بالآثار والحضارة المصرية القديمة عن «لعنة الفراعنة».
كتب ودراسات عديدة صدرت بعدة لغات حول تلك اللعنة، كاتبنا الراحل أنيس منصور حدّث قراءه طويلًا وكثيرًا حول لعنة الفراعنة وضحاياها المزعومين، كانوا فى الأغلب بعض المغامرين من تجار ولصوص الآثار أو بعض المفتونين بها، لكن وقائع التاريخ تؤكد أننا، نحن أبناء مصر، الشعب والأمة المصرية، واجهنا «لعنة المكان» أو لنقل «لعنة الجغرافيا»، التى أغرت بنا الهكسوس والفرس والرومان وغيرهم كثيرًا من مختلف الأجناس والثقافات، إلى يومنا هذا حيث المشروع الإرهابى الذى خضنا حربًا ضروسًا ضده سنوات فى سيناء تحديدًا، منذ صيف سنة ٢٠١٣.
وإن كانت بوادره واضحة منذ محاولة اجتياح معبر رفح سنة ٢٠٠٨، وصولًا إلى مشروع التهجير القسرى الذى طرحته، عبر وسائل الإعلام، أطراف إسرائيلية عقب هجوم السابع من أكتوبر، على مستوطنات غلاف غزة وعدد من المواقع العسكرية الإسرائيلية، لقد نجحنا فى التصدى له، بجهد خارق ومتميز قادته الدولة المصرية، لكن أتوقع أن يُعاد طرحه بصياغات وأسماء أخرى، إنها لعنة المكان والجغرافيا وبنفس القدر عبقرية الإنسان المصرى وصلابته فى حماية الحدود والوطن؛ وترويض بعض المخاطر والقضاء على بعضها.
تاريخيًّا لم تكن المخاطر والتهديدات تأتى من الحدود فقط، لكنها كانت تأتينا كذلك مع فيضان النيل، الذى كان يجتاح القرى والمدن، قرى بأكملها كانت تختفى، وهكذا كان للنيل وجه آخر، غير الخير والنماء، وجه اجتياح الفيضان إذا فاض بعنف، وإذا نضب أيضًا يكون الجفاف. مع الاجتياح كانت قواقع وديدان البلهارسيا تغزو أكبادنا فتتلف وتتليف، ومع الجفاف تكون الأوبئة والمجاعات.
قرون على هذا النحو من المواجهة الصلبة والوفيات المبكرة، فى كل تلك المواجهات والمحن لم يمد أحد يده إلينا بالعون أو المساعدة، لا تثريب على أحدٍ، لكنها الحقيقة، ينبغى أن نكون على وعى بها.
رغم هذه المحن والكوارث ومحاولات اجتياح الحدود والغزو، أقام المصريون حضارة عظيمة، أسسوا المدن وأقاموا الزراعات والصناعات، فاض الإنتاج، وما بخلوا يومًا على محتاج وما ضنوا على جارٍ أو شقيق فى ضيق. الغريب أن ذلك الجهد فى إنتاج وإبداع الحضارة والكرم النبيل مع الآخرين وضعهم فى بؤرة الحسد والحقد حينًا وأطماع الغزاة كلما لمسوا فينا ضعفًا ما.
وربما كان المؤرخ العظيم محمد شفيق غربال من أدق الذين لمسوا هذه القضية فى أحاديثه الإذاعية، التى جمعها وصدرت فى كتيب صغير، بالغ الأهمية بعنوان «تكوين مصر»، مازال يُطبع إلى يومنا هذا.
الموقع الجغرافى والمكان يفرض تحدياته الخاصة وفرصه، هناك مَن يستجيب ويكون على قدر التحدى وهكذا كان المصريون. على المدى الطويل تاريخيًّا، تفهموا المخاطر المحتملة والنيران المتقدة.
هذه النيران المتقدة طوال التاريخ جعلت من الضرورى وجود دولة مصرية قوية، بكل أدوات الدولة وقوتها، تواجه الأخطار عند الحدود، وأحيانًا تستبقها وتمنعها قبل أن تصل إلينا كما وقع مع التتار فى «عين جالوت».
الدولة ليست فقط موقعًا جغرافيًّا وشعبًا واعيًا، لكن بنفس الدرجة مؤسسات تتجذر، تَعِى واجبها ودورها، وفوق ذلك قيادة تكون على قدر التحديات والمواجهة.
المرير أن بعض المتحذلقين نظريًّا والمتنطعين سياسيًّا وثقافيّا راحوا يعيروننا بوجود الدولة القوية واعتبروها سلبية ومأخذًا تاريخيًّا وإنسانيًّا علينا، ثم راحوا يتندرون بتاريخنا وحضارتنا، ما يتردد حول بناء الهرم وسبب البناء نموذج لذلك التنطع.
باختصار يودون سحب أى إنجاز تاريخى يحققه المصريون. بناء الهرم والآثار العظيمة يصبح رمز العبودية والقهر، فإذا سقطت نظريتهم تلك قالوا بَنَتْها كائنات فضائية، هبطت لتنفيذ المهمة، ثم عادت من حيث جاءت، وإذا حقق المصريون نصرًا عسكريًّا صاحوا بأنه كان «عملية مفبركة» مع العدو، ولما تبين حجم الضلال والشطح فى الخيال، تمتموا بأن ملائكة السماء هى التى حاربت وحققت النصر وليس المقاتل المصرى، أى تجريد المصرى من القدرة على الفعل وتحقيق أى انتصار. فاتورة الجغرافيا أو لعنتها نتحملها بيقين وإيمان، وطنًا وأمة.