شهد هذا العام صدور مذكرات محمد فايق، وزير الإعلام، رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان سابقًا، بعنوان «مسيرة تحرر»، قدم فيها سيرته منذ ثلاثينيات القرن الماضى وحتى الآن، رصد فيها الكثير من الوقائع فى تاريخنا الوطنى والسياسى منذ نهاية الأربعينيات. مثلت تلك السيرة إضافة مهمة للباحثين فى التاريخ والسياسة المصرية.
كما صدر، خلال العام، كتاب «مرقس باشا سميكة.. شاهد على تاريخ الوطن والكنيسة»، وعلى الغلاف عنوان إضافى منفصل، هو «مؤسس المتحف القبطى».
كان الكتاب قد صدر قبل ست سنوات، باللغة الإنجليزية، عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية فى القاهرة، تقديم د. دونالد م. ريد، أستاذ التاريخ الحديث، صاحب كتاب «فراعنة من؟»، وقدم الطبعة العربية د. جودت جبرة.
اعتمد الكتاب على «مذكرات سميكة» بشكل أساسى، والتى آلت إلى الحفيد، طبيب النساء فى لندن، د. سمير سميكة، وبعد ثمانين عامًا من كتابتها، راح يدرسها، وقام بتأليف الكتاب هو ونيفين حنين. بذل المؤلف والمؤلفة جهدًا بحثيًّا وعلميًّا يُثرى القارئ، فضلًا عن الشغوفين بتاريخ هذا الوطن، فى تفصيلاته غير المعروفة. قامت بنشر الطبعة العربية مؤسسة سان مارك لتوثيق التراث.
وُلد مرقس سميكة فى عهد الخديو إسماعيل، سنة 1864، ورحل عن عالمنا فى زمن الملك فاروق سنة 1944، هو واحد من الذين صعدوا ثقافيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بفضل التعليم المدنى الحديث، الذى كان إسماعيل باشا يُوليه اهتمامًا كبيرًا، سيرًا فى ذلك على طريق جده محمد على.
عمل سميكة فى تسعينيات القرن التاسع عشر فى السكك الحديدية، واكتشف حجم الفساد المالى والإدارى الذى كان داخلها، والسبب كما ارتآه أن المسؤولين فى المواقع خارج القاهرة كان يبدو كل منهم وكأنه إمارة مستقلة يفعل ما يحلو له، خاصة ما يتعلق بالمشتريات، والمدهش أن أحدًا لم يكن يراقب أو يتابع، فضلًا عن أن يحاسب أو يسائل، كانوا يتعاملون بمنطق العصور الوسطى، حيث النهب هو الأصل، ولا غضاضة فيه؛ اضطر هو أن يُدخل استعمال الكربون فى قوائم وفواتير المشتريات حتى يكون هناك أصل وصورة لأن الفاتورة كانت تُحرر أكثر من مرة، وفى كل مرة بسعر وفق الجهة التى ستقدم لها.
سميكة باشا معروف أنه مؤسس المتحف القبطى، فضلًا عن أنه كان صاحب الفكرة، لولاه كان يمكن أن نفقد الكثير من تلك الآثار. ما تكشفه المذكرات أنه كان عضوًا فى لجنة حفظ الآثار العربية التى شكلها الخديو توفيق. فيما بعد صار رئيس اللجنة الفنية بها، قبطى مصرى مسؤول عن صيانة الآثار الإسلامية، ويؤدى مهمته على أفضل وجه.
حدث أن الخديو عباس حلمى عيّن شقيقه، الأمير محمد على توفيق، رئيسًا فخريًا للجنة كى يدعمها. كان عباس حلمى مهتمًّا بالآثار المصرية عمومًا، ثم اقترح محمد على القيام بهدم جامع عمرو بن العاص كاملًا وبناء مسجد جديد مكانه على الطراز الحديث، ورفض كل أعضاء اللجنة الاقتراح، وكان فيها عدد من العلماء الأجانب. غضب الأمير بشدة، وانسحب من اللجنة نهائيًّا.
ولما تولى مرقس مسؤولية اللجنة الفنية طلب من الحكومة توفير مبلغ (40 ألف جنيه) لترميم جامع أحمد بن طولون، الذى كان قد وصل إلى حالة بائسة من الإهمال. قال فى مذكرته الرسمية عن الجامع إنه «لا يُعد فقط أحد أقدم الآثار الإسلامية فى مصر، بل هو من أهمها على الإطلاق». نجحت اللجنة فى ترميم عدد من المساجد، مثل جوامع السلطان حسن والأقمر والظاهر بيبرس، الذى كان الاحتلال البريطانى قد أساء استخدامه بأن حوّله إلى مجزر، وتطور دور اللجنة ليتجاوز الاهتمام بالمساجد والكنائس إلى البيوت الأثرية والأسبلة وغيرها من المنشآت الأثرية فى القاهرة وبعض المحافظات أيضًا.
فى تأسيس المتحف القبطى نلاحظ مدى اهتمام السلطان حسين كامل والملك فؤاد من بعده بهذا المتحف والرغبة فى أن يكون على أكمل وجه. يشير دونالد ريد فى تقديمه إلى أن الطراز المعمارى والفنى لجامع الأقمر تم استلهامه فى تصميم واجهة المتحف القبطى.
أهم ما يقدمه الكتاب هو الجانب السياسى والاجتماعى والإدارى. مثلًا ورد فى المذكرات أن قضاة محكمة الاستئناف قبل الحرب العالمية الأولى كانوا يُختارون وفق أسس فئوية أو طائفية. مثلًا كان هناك قاضٍ يمثل الجالية السورية فى مصر، باعتبارها جالية قديمة وعريقة، وحدث فى إحدى المرات أن لم يُعيَّن قاضٍ من الأقباط، فغضب سميكة، واحْتَجَّ، وتم تدارك الأمر.
فى ملف العلاقات بين المسلمين والأقباط يصر سميكة على أن دار المعتمد البريطانى أفسدت عمدًا تلك العلاقات، ودفعتها إلى التصادم، خاصة بعد اغتيال بطرس غالى، ناظر النظار، ما أدى إلى عقد المؤتمر القبطى فى أسيوط، وعنده أنه كان ممكنًا تلافى ذلك كله لو أن دار المعتمد البريطانى عملت على رفع المظالم التى ارتكبتها فى حق بعض الأقباط.
أصل المشكلة أن المواقع الإدارية العليا كانت للمسلمين، وكان الأقباط يشغلون مواقع الكتبة. فى المحافظات والأقاليم، الباشكاتب فى كل مديرية يكون قبطيًّا، عن تراضٍ وقبول من الجميع، مسلمين ومسيحيين، هذا الوضع أتاح للمباشرين الأقباط أن يكونوا مشاركين فى مؤسسات السلطة والحكم.
جده لأمه- مثلًا- كان كاتبًا، صاحب إبراهيم باشا فى حروبه باليونان وسوريا، شغل منصبًا ماليًّا فى سوريا لمدة عشر سنوات، وفى زمن محمد على ومَن جاء بعده من الأسرة جرت عديد من الإصلاحات العامة بخصوص الأقباط. محمد على يمنح نوبار باشا، وكان مسيحيًّا، لقب بك، حدث ذلك للمرة الأولى. كان القبطى يحمل لقب «المعلم»، وصار مسموحًا بأن يرتدى المسيحى الصليب، كما سمح محمد على بتجديد وبناء كنائس جديدة. سعيد باشا يجند الأقباط ويلغى الجزية، وهكذا عبْر التجنيد الإجبارى غادر الأقباط وكذلك اليهود خانة الذمية إلى رحاب وأفق المواطنة.
الخديو إسماعيل، فى سبعينيات القرن، يعين قبطيًّا فى أول نظارة، ثم يكون هناك ممثل للأقباط فى أول مجلس شبه نيابى وهكذا. كان المصريون منذ مجىء محمد على ينتقلون خطوة خطوة من رعايا مولانا السلطان فى استانبول إلى المواطنة، ويعودون إلى مصريتهم، يبتغون العدالة، ويسعون نحو الحرية، لذا لم يكن غريبًا أن نجد أقباطًا بين صفوف العرابيين، ثم جاءت سلطات الاحتلال، خاصةً مع لورد كرومر، ولم تحترم كل ذلك، بالأحرى حاولت أن تجهض ما بناه المصريون معًا وتعيدهم إلى الوراء.
حين أراد الخديو عباس حلمى الثانى- وفق المذكرات- تعيين بطرس غالى، سنة 1908، ناظرًا للنظار خلفًا لمصطفى فهمى الذى تقاعد، رفض المعتمد البريطانى تمامًا، معللًا ذلك بأن الأغلبية من المسلمين، وحذر الخديو من أن هذا القرار سوف يثير غضب المسلمين، كما حدث حين عين جده إسماعيل نوبار باشا، لكن الخديو أصر على موقفه. كان مقتنعًا بكفاءة الرجل، من خلال مواقعه السابقة ونزاهته وإخلاصه للبيت الخديوى.
كان رأى الخديو أن نوبار لم يكن مكروهًا لكونه مسيحيًّا، بل لأنه لم يكن مصريًّا بالأساس، لم يُولد فى مصر، لكن بطرس باشا مصرى ابن مصرى، (نوبار كان مكروهًا ربما بسبب سياساته مثل مصطفى رياض وإسماعيل صديق المفتش، نوبار عمل مع محمد على، ثم كان مقربًا جدًّا من إبراهيم باشا، ولم يُثِرْ ذلك غضب المصريين)، كثير من التفاصيل والجزئيات المهمة فى هذا الملف تُوجب علينا المزيد من البحث والتدقيق فيه.
ولما قامت الحرب العالمية الأولى، عزل الإنجليز الخديو عباس حلمى، اعتبروه منحازًا إلى الألمان والأتراك ضدهم، ومنعوه من العودة إلى مصر، ثم عرضوا حكم مصر على الأمير حسين كامل، نجل الخديو إسماعيل وشقيق توفيق، ومن ثَمَّ عم عباس حلمى، فرفض مستنكفًا أن يجلس مكان ابن شقيقه، مكلفًا من السلطة التى وضعت مصر تحت الانتداب. تكرر العرض، وأصر على الرفض. يذكر سميكة أن الإنجليز هددوا بضم مصر نهائيًّا إلى بريطانيا العظمى إذا لم يجدوا مَن يتولى العرش، عندها قبل حسين كامل، وتحمل الكثير من الانتقادات والكراهية.
تقترب سيرة ومذكرات مرقس سميكة من ملف آخر لا يقل أهمية، وهو عن العلاقات القبطية/ القبطية.
الحديث ممتد.