من اللحظة الأولى لحرب السابع من أكتوبر، «طوفان الأقصى»، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ومعظم قادة إسرائيل أن هدفهم الأساسى تدمير حماس وقتل كل قادتها، بلا استثناء، فى أى مكان وُجدوا به، ومن ثَمَّ إعادة صياغة خريطة وتركيبة غزة، وزاد رئيس الوزراء بأن ما سيقومون به سوف يغير بشكل كامل الشرق الأوسط كله لمدة خمسين عامًا على الأقل. كان الرجل يتحدث بيقين مطلق مما يقول به، وفى بعض اللحظات بدا وكأنه يتوعد الجميع فى المنطقة، خاصة بعد أن راحت الإدارة الأمريكية تتماهى- فى الأيام الأولى- مع الموقف الإسرائيلى.
قدمت إسرائيل سردية خاصة تبرر ما سوف تُقدم عليه، ونقل عنهم الرئيس جو بايدن نفسه، تحدثوا عن أطفال إسرائيليين فى مستوطنات «غلاف غزة»، قُطعت رؤوسهم، شبان وفتيات كانوا يحتفلون فى أحد الملاهى، تم إحراقهم، ثم تبين كذب كل ذلك، اضطر البيت الأبيض إلى إعادة النظر فى تصريحات الرئيس بايدن حول قطع رؤوس الأطفال. ضحايا الملهى تعرضوا لقصف طائرة أباتشى إسرائيلية. إحدى الصحف الإسرائيلية أجرت تحقيقًا فى هذا الأمر، وانتهت إلى أن الفصائل الفلسطينية لم تقم بالعملية، وهكذا راحت إسرائيل تخسر المعركة أمام الرأى العام، الذى انقلب ضدها، بشكل مكثف، لأول مرة.
ومضت الأيام والأسابيع، نحن الآن على أعتاب الشهر الرابع؛ ومازالت المقاومة قادرة على أن تعرقل معظم أهداف إسرائيل، وعلى أن تفاجئ القوات الإسرائيلية وتوقع خسائر بها، سواء فى الأفراد أو المُعَدات. بين القتلى ضباط كبار فى الجيش الإسرائيلى. فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، كان بإمكان العقيد عساف ياجورى أن ينزل من مدرعته، رافعًا يديه ويعلن عن نفسه للقوات المصرية وهو يضمن أنه سيكون أسيرًا وفق قواعد الحروب واتفاقية جنيف، لكن الضابط أو الجندى الإسرائيلى فى غزة سوف يؤخذ رهينة، فى أحد الأنفاق، وقد يستمر سنوات على هذا النحو، إن لم يُقتل فى غارة إسرائيلية تُشَنّ على محبسه.
«يحيى السنوار»، المطلوب الأول لدى إسرائيل، يتحرك كما يريد، بل صار أقرب إلى شخصية «على الزيبق» فى التراث العربى. يتحرك قريبًا منهم جدًّا، وأحيانًا فى قافلة من قوافلهم، ثم يتلاعب بهم، مثل أن تصل إليهم معلومات بأنه فى بيته، وما إن يصلوا ويحاصروا البيت والحى، حتى يُقال لهم إنه غادر قبل قليل. هذه القدرة على التلاعب بالعدو، الاقتراب المحسوب منه، ثم الاختفاء السريع، أمر مثير للإعجاب لدى الكثيرين فى الشارع.
المُلاحَظ أن الأهداف الإسرائيلية المعلنة فى الأيام الأولى من عملية الطوفان تتراجع، إذ تطلب بإلحاح الوساطة لدى حماس للإفراج عن الرهائن، حيث فشل جيش الدفاع فى تحريرهم. قادة حماس مازالوا، حيث هم، فى منأى عن القبضة الإسرائيلية، رغم أن تلك القبضة طالت من قبل الشيخ أحمد ياسين، مؤسِّس الحركة، وتقريبًا طالت معظم القادة المؤسِّسين. القادة الميدانيون الآن هم مَن يملون شروطهم على إسرائيل، الواضح أنهم غير قلقين.
عاجلًا أو آجلًا سوف تتوقف الحرب، لن تحتمل إسرائيل طويلًا، وفى لحظة سوف تصبح الحرب بلا جدوى، دمروا كل ما يمكن تدميره فى غزة، البيوت والمستشفيات والمدارس، بدعوى أن حماس تستغل هذه المبانى فى تخزين أسلحة، وتحفر الأنفاق أسفلها، ولم تثبت صحة أى من هذه المزاعم، الآن تبدو عملية التدمير مقصودة لذاتها وبذاتها، إسرائيل تستهدف المدنيين عمدًا، ولا قانون يُوقفها. لن يدفع التدمير وزيادة أعداد الشهداء من المدنيين قادة حماس ومقاتليها إلى مغادرة الأنفاق والجلوس فى انتظار صاروخ إسرائيلى أو غارة بمسيرة.
فى عام ٢٠٠٦ شنت إسرائيل حربًا ضارية على لبنان، كان الهدف المعلن تدمير حزب الله. عمليًّا دُمرت بعض المناطق، ومن بينها بيروت العاصمة. انتهت الحرب إلى إضعاف الدولة اللبنانية، وإنهاك المجتمع، وصار حزب الله أقوى مما كان، عسكريًّا واقتصاديًّا، ومن ثَمَّ سياسيًّا. فى رأى كثير من المحللين فى لبنان، أصبح أقوى من الدولة ذاتها، وأصبح رأيه نافذًا فى كثير من الأمور.
خارج منطقتنا ذهبت القوات الأمريكية فى أكتوبر ٢٠٠١ إلى أفغانستان لتدمير تنظيم القاعدة ومعه حركة طلبان. فى ديسمبر من السنة نفسها أزاحت القوات الغازية طالبان من الحكم، فانتقلت إلى الجبال والأقاليم، تبنى قواها، وبعد عشرين عامًا ناءت أمريكا بالفاتورة الأفغانية، على كافة المستويات، تكلفت عشرات مليارات الدولارات، مئات من القتلى والجرحى، كسر الهيبة الأمريكية، فاستعانت بقطر للتفاوض مع قادة طالبان فى الدوحة، على أن تسلمهم أفغانستان مقابل التعهد بعدم مهاجمة الولايات المتحدة أو السماح بتهديد أمنها القومى من الأراضى الأفغانية.
أقصى نجاح يمكن أن تحصل عليه إسرائيل، رغم عدم وجود إشارات بحدوثه، هو أن يجرى مع قادة حماس أمر مشابه لما حدث فى بيروت سنة ١٩٨٢ مع الزعيم الفلسطينى ياسر عرفات وقادة منظمة التحرير الفلسطينية، حيث غادروا إلى تونس، لكن كانت شعبيتهم فى السماء، وباتت زعامتهم مؤكدة وسط الشعب الفلسطينى، فضلًا عن التعاطف العربى الكاسح.
ومن هناك- تونس- أمكن وضع خطة الانتفاضة الأولى «انتفاضة الحجارة» سنة ١٩٨٧، بعد خمس سنوات من مغادرة بيروت.
مع انتهاء الحرب، هذه المرة، سيكون المجتمع الفلسطينى مثقلًا بالآلام، منهكًا إلى أبعد حد، فضلًا عن أن السلطة الوطنية ليست فى أقوى حالاتها، باختصار لن يبحث المجتمع عن بديل لحماس ولا غيرها من الفصائل، على الأقل فور انتهاء القتال، هم خاضوا الحرب معًا، فضلًا عن أن المقاومة حققت عدة انتصارات فى مواجهة قوة الاحتلال، وهذا فى نظر شعب محتل مُرْضٍ وطنيًّا ومعنويًّا، فضلًا عن أنه منح المقاومة قدرًا كبيرًا من القبول، حتى لدى عدد من خصومها، فضلًا عن أنه مسح فى نظر الكثيرين ذنوبها (الجرائم) السابقة، مثل معركتهم مع قوات وأعضاء فتح سنة ٢٠٠٦، والتى أدت إلى مقتل أكثر من مائة فرد، ناهيك عما قاموا به تجاه مصر سنة ٢٠١١.
الإسرائيليون لا يتعلمون، ساعدوا طوال الثمانينيات الشيخ أحمد ياسين حين أسس «المجمع الإسلامى» سنة ١٩٧٩، ليكون أقرب إلى مؤسسة خيرية واجتماعية، ثم تحولت الجمعية مع الانتفاضة الأولى إلى «حماس»، ظن إسحق رابين أنه يسحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير الفلسطينية، ثم زادت إسرائيل باغتيال خليل الوزير «أبوجهاد»، الذى كان على صلة وطيدة وفاعلة بالداخل الفلسطينى، فتقدمت حماس ولديها مآخذ على منظمة التحرير، من بينها أن المنظمة اعترفت بإسرائيل. لم يكن بوسع حماس أن تغض الطرف عن أن إسرائيل تحتل أراضى فلسطين، وأمامهم تجربة حزب الله فى جنوب لبنان.
مع السنوات تخلصوا من شطح دعوات دولة الخلافة وهلاوس جماعة حسن البنا وتجاهل القضية الوطنية، أدركوا أن قضيتهم الأولى تحرير وطنهم من الاحتلال الإسرائيلى.
لا يمكن لوطنى أن يتجاهل احتلال بلاده. حين كان لورد كرومر عميدًا للاحتلال البريطانى فى مصر، سعى إلى تقريب بعض الشخصيات العامة منه، يُطلق عليهم فى أدبيات تلك الفترة «حزب كرومر»، من باب التصنيف الدقيق أو التهكم لدى خصومهم، وقد هوجموا كثيرًا من جانب الحزب الوطنى والزعيم مصطفى كامل. المفاجأة أن معظم قادة ثورة ١٩١٩ كانوا من تلك المجموعة. القضية أنهم تعاونوا مع كرومر لتيسير الأمور وإصلاح الحال، لكن لم ينسوا أنه المحتل، وما إن حانت الفرصة حتى تقدموا الجميع للمطالبة بالاستقلال.
هدف إسرائيل المعلن بتدمير حماس يبدو، فى ضوء المعطيات أمامنا، أقرب إلى المستحيل. الحرب الحالية، مع صمود المقاومة، تمنحها صك البقاء، وأن تكون اللاعب الرئيس فى الأراضى المحتلة، وإذا نجحت إسرائيل فى اغتيال بعض القادة أو حتى كلهم فسوف يظهر قادة جدد أشد رفضًا للاحتلال.
إضعاف حماس أو تراجعها يمكن أن يتحقق مع انتهاء الاحتلال، والشروع فى تأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة. ساعتها، لا يصبح سؤال الوجود الوطنى وحده المطروح، بل تظهر أسئلة العدالة والديمقراطية والتنمية.