ليس فى العنوان أى مبالغة ولا جهد منى فى الصياغة، كان لدينا بالفعل وزير بهذا المسمى، فى العهد الملكى وقبل قيام ثورة يوليو ٥٢، ليس صحيحًا ما تم ترويجه أن وزارة الدعاية «الإعلام» اختراع ناصرى، ولا أن وجود مثل هذه الوزارة مؤشر على الشمولية والديكتاتورية، وأن وجودها يعنى السيطرة على الإعلام وتوجيهه.
وزارة الدعاية (الإعلام) وُجدت فى بعض الدول التى تسمى ديمقراطية أيضًا.
عندنا فى مصر، ظهر المسمى أول مرة بذلك الوضوح «وزارة الدعاية»، فى وزارة «نجيب الهلالى باشا»، التى أدت اليمين الدستورية فى أول مارس ١٩٥٢، كان الملك فاروق كلف الهلالى بتشكيل الحكومة خلفًا لحكومة على ماهر، ولسبب لا نعرف تفاصيله استحدث الهلالى فى وزارته منصب «وزير الدولة للدعاية»، شغل هذا الموقع «محمد فريد زعلوك».
فى العصر الملكى كان هناك مسمى «وزير بلا حقيبة وزارية»، وكان للتوازنات الحزبية، فى الحكومات الائتلافية غالبًا، وربما ترضية بعض الشخصيات العامة أو الأحزاب الصغيرة، لكن حكومة الهلالى كانت مستقلة، لم تكن حزبية وإن كان الهلالى عرف بعدم حبه لحزب الأغلبية (الوفد)، فماذا دفعه لاستحداث هذا الموقع؟.
ربما كان الرجل يدرك حجم المعارك والصراعات التى سيدخلها، كان قرر مهاجمة حزب الوفد وانتزاع الأخيار بالحزب إلى صفه لإضعاف الحزب صاحب السيطرة على الشارع، كما شرع فى مهاجمة وكر الأفاعى وخوض عملية التطهير الإدارى، وهى بلا شك محفوفة بالمخاطر، لأنها تتعلق بتجاوزات كل الحكومات السابقة، هذا يعنى الاصطدام بالجهاز الإدارى كله، وفى معارك التطهير ومقاومة الفساد، يمكن أن تحدد نقطة البداية، لكنك لا تعلم إلى أين تصل وما الذى سنكتشفه فى الطريق وعند من تقف؟. وقتها كانت رائحة بعض أركان الحاشية الملكية تفوح، فى كل الأحوال سوف تحتاج الحكومة إلى الدعاية أو الإعلام.
على الجانب الآخر، الملك فاروق والجناح غير المترهل فى القصر والحاشية كانوا يدركون أهمية الدعاية فى رسم صورة إيجابية للملك. فى سنواته الأولى بالحكم قدمته الدعاية للمصريين باعتباره الملك التقى، الورع، المتواضع، محب العلماء، نصير الفقراء. فى تلك الفترة انتشرت مصطلحات مثل: إن جلالة الملك هو.. الفلاح الأول، العامل الأول، الصانع الأول وهكذا، مئات المقالات دُبّجت وعشرات الكتب صدرت بهذا المعنى.
الأمر المؤكد أن النظام الملكى كان منتبهًا إلى دور الإعلام. تأسست الإذاعة المصرية سنة ١٩٣٤ فى عهد الملك فؤاد الأول وكانت تحظى برعاية رسمية خاصة، وفى زمن الملك فاروق وجدنا تنافسًا شديدًا بين جلالة الملك والرئيس الجليل مصطفى النحاس (هكذا كان يُلقَّب) فى السيطرة على الإذاعة واستحواذ أخبار وأنشطة كل منهما على أكبر مساحة من التغطية، خاصة أداء كل منهما صلاة الجمعة ونقل هتافات الجماهير والمصلين بالتأييد، وكذلك الاهتمام بنقل احتفالات قصر عابدين فى ليالى رمضان بقراءة القرآن الكريم واستماع الملك بخشوع.
كان الملك يتعمد مفاجأة بعض الحفلات التى تنقلها الإذاعة بالحضور، كما حدث فى احتفال النادى الأهلى ليلة العيد وكانت تحييها كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم. سوف نلاحظ أن تلك السنوات شهدت انتشار بعض الأغنيات التى تحتوى على مقطع أو جملة فى الإشادة بالملك لكبار المطربين والمطربات.
وقد لا يعلم معظمنا أنه كانت هناك محاولة جادة لدخول مصر عصر البث التلفزيونى، وتحددت المناسبة بتاريخ زفاف الملك فاروق على الآنسة ناريمان صادق، كانت الإذاعة أعدت حفلات خاصة بهذه المناسبة.
تاريخيًّا كان أول غناء لعبدالحليم حافظ بالإذاعة فى تلك المناسبة، مايو سنة ١٩٥١، قصيدة للملك لحنها عبد الحميد توفيق زكى، وليس صحيحًا ما هو رائج من أن أول غناء حليم فى الإذاعة كان سنة ٥٣ قصيدة صلاح عبد الصبور «لقاء».
لا ينتقص ذلك من قدر عبدالحليم حافظ، لا يغض مما قدمه بعد ذلك فى ظل ثورة يوليو، المعيب فقط هو إسقاط تلك الفترة من التاريخ، تاريخ المؤسسات والأشخاص.
وقتها هناك من قرر أن الإذاعة وحدها لم تعد كافية، وبات ضروريًّا دخول عصر التلفزيون الذى انتشر فى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فى سيرته البديعة «هموم المسرح وهمومى»، أصدرتها دار الهلال فى يناير ١٩٩٤، ذكر أستاذنا الناقد العظيم د.على الراعى، أنه حين كان مذيعًا بالإذاعة المصرية فور تخرجه فى الجامعة، اختير لقراءة النشرة بالتلفزيون وكان هناك استديو مجهز، داخل مبنى سنترال باب اللوق.
وأجريت عدة بروفات أو ما يسمى «بث تجريبى» سنة ١٩٥٠، فى ظل حكومة الوفد، ثم توقف المشروع تمامًا، لأن البث كانت تتولاه شركة فرنسية وحدثت ضغوط شديدة من الشركات الأمريكية لإبعاد الفرنسيين، ونجحوا فى تأجيل الأمر كله. يذكر د. الراعى أن ذلك هو ما أجل البث عشر سنوات، بدأ فى العام ١٩٦٠، على النحو المعروف، سمعت من د. الراعى الكثير من التفاصيل فى هذا الجانب ولما سألت وقتها بعض قدامى الإذاعيين وبينهم من كان يعتبر نفسه من مؤسسى الإذاعة والإعلام، لم أجد لديهم شيئًا فى هذا الجانب.
فى سنة ٥٢، وبعد حريق القاهرة مباشرة، كان هناك إدراك واضح للحملات الإعلامية الموجهة ضد الملك فاروق وضد النظام كله، اشتعلت تلك الحملات إثر دخول حرب فلسطين، دعنا الآن من الأحاديث المبالغ فيها حول سلوكيات وتصرفات الملك فاروق، تصرفاته هى نفسها فى معظم المواقف، من البداية.
بإزاء ذلك يمكن أن نتفهم استحداث نجيب الهلالى منصب وزير الدعاية وموافقة الملك على تلك الخطوة، كان التشكيل الوزارى يعرض على الملك ويقره بالكامل قبل أن يعلن، ويبدو أنه فى ظل الانشغال بالقضية الوطنية ومسألة التطهير الحكومى والإدارى لم ينتبه رئيس الوزراء بالقدر الكافى ولا الوزير المختص بتأسيس وتكوين وزارة بالفعل، فضلًا عن أن تكون هناك مهام أو تكليفات محددة للوزير زعلوك.
المفاجأة أن الحكومة التى استحدثت وزارة الدعاية افتقدت الدعاية لتشد الرأى العام كى يدعمها فيما اعتزمت القيام به، بل إنها واجهت دعاية مضادة جعلت معظم الأطراف الحزبية والسياسية تناوئها، بل إن هذه الحكومة سقطت نتيجة شائعة تم حبكها وقدمت إلى رئيس الوزراء نفسه فدفعته دفعًا إلى أن ينسحب من الميدان لحظة الذروة ويتقدم باستقالته.
الشائعة أن عبود باشا اجتمع فى باريس مع كريم ثابت وإلياس أندراوس، أحد المقربين من الملك، واتفق الثلاثة على أن يدفع عبود باشا مليون جنيه «رشوة»، تصل عبرهما إلى الملك لإقالة الهلالى وإغلاق ملفه الضريبى. الشائعة وصلت إلى الهلالى عبر السفير الأمريكى فبادر بالاستقالة، تطورت الشائعة إلى أن المليون دفعت للملك فعلًا.
سئل السفير الأمريكى عن مصدره فقال إنه سمع بها من أحد كبار الصحفيين المصريين، بعد مرور الأحداث تبين أنها مجرد شائعة حبكت وألقيت فى طريق الهلالى، الذى لم يكن مقاتلًا، وكانت أمامه طرق عديدة للتحقق، فضلًا عن أنه لم تكن هناك مطاردة حقيقية من مصلحة الضرائب لعبود باشا، وما كان ممكنًا له أن يدفع هذا المبلغ الضخم، الوسائل القانونية أيسر وأقل تكلفة من ذلك.
هل كان الهلالى هو المقصود أم النظام السياسى كله؟، الشائعة تعنى أن الفساد المطلق وصل إلى رأس النظام نفسه، وتم تضخيم المبلغ لهذا الغرض (مثل شائعة السبعين مليار دولار سنة ٢٠١١)، وهل دور السفير الأمريكى أن ينقل شائعة أو نميمة سمعها أم أنه تعمد ذلك، خاصة أنه كان سفيرًا غير عادى؟ (هنا من حقنا أن نضع العديد من علامات الاستفهام عن دور بعض الشائعات فى صناعة أحداث التاريخ).
الطريف أن عبود باشا لم يحاسب على شىء من ذلك بعد قيام ثورة يوليو، وهذا يعنى أنه لم يكن هناك ما يساءل عنه، خاصة أن عمليات التطهير التى قام بها الضباط الأحرار اعتمدت على ملفات ولجان وزارة نجيب الهلالى، وإلى اليوم هناك من يصر على أن عبود دفع مليون جنيه بالفعل للملك.
بعد استقالة الهلالى اختفى هذا المسمى فى التشكيل الوزارى الجديد، وزارة حسين سرى، ولما سقطت تلك الوزارة أيضًا وعاود الملك تكليف الهلالى بتشكيل الحكومة يوم ٢٢ يوليو سنة ١٩٥٢، قبل يوم واحد فقط من النهاية، لم نجد ذلك المسمى فى الحكومة، ظهر فيما بعد باسم وزارة الإرشاد القومى، ثم صار اسمها وزارة الإعلام.