قد تبدو «الثورة» فعلًا فجائيًّا وعلى غير توقع، أو رد فعل غاضبًا وعنيفًا على حدث ما، قد يبدو عابرًا وربما عاديًّا، النموذج الذى يحضرنا، إحراق الشاب محمد بوعزيزى نفسه فى تونس، سنة٢٠١٠، إثر تعنت مسؤولة فى الإدارة المحلية معه، بالغت فى الالتزام باللوائح (ثبت بالتحقيق أنها لم تصفعه على وجهه، كما زعمت ميليشيا السوشيال ميديا وبعض الفبركات الإعلامية).
لكن قبل كل ذلك لا بد من وجود مشروع وطنى (سياسى- فكرى- اجتماعى) يكون متبلورًا بشكل ما فى الأذهان وهناك قدر من التوافق عليه، حتى لو كان توافقًا ضمنيًا، يبدو ذلك واضحًا فى حالة الثورة الفرنسية وكذا الثورة الروسية (البلشفية). لم تكن كل منهما ثورة سياسية فقط ولا اقتصرت أهدافها على إسقاط نظام حكم قائم وإزاحة نخبة بعينها، بل هدفت إلى إعادة تشكيل المجتمع وبناء ثقافته، بل قيمه العليا من جديد.
فى تاريخنا المصرى نجد شيئا مقاربًا، ثورة مايو ١٨٠٥، كان فى خلفيتها محاولة سابقة للانعتاق من الدولة العثمانية قام بها على بك الكبير وفشلت المحاولة لأن الدولة العثمانية أقنعت محمد بك أبو الدهب قائد جيش على بك، أن سيده «كفر وخرج من الملة»، كان على بك وقع على صفقة سلاح (بنادق) مع روسيا القيصرية، العدو اللدود للدولة العلية، وصمت لديها بالكفر، فشلت محاولة الاستقلال وارتدت الأمور إلى الأسوأ، ثم كانت هناك محاولة شعبية بقيادة الشيخ الشرقاوى سنة ١٧٩٥، للتخلص من استبداد وفساد المماليك، وأحنى المماليك رؤوسهم مؤقتا، بل وقعوا على وثيقة تعهدوا فيها بكل مطالب الأهالى، ثم عادوا كما كانوا من قبل، بل أسوأ.
كان فى خلفية الثورة أيضا تجربة المصريين فى مقاومة حملة نابليون، خاضوها بصدورهم العارية ودمائهم، بينما عجزت الدولة بجيوشها وباشَواتها وأغاواتها- كانوا يسمون الفرسان- عن حمايتهم والدفاع عنهم. بالأحرى اختفت الدولة وتبخرت لحظتها.
الثورة العرابية انطلقت غضبا من الأوضاع السياسية والإدارية، ومن ضعف أداء وشخصية الخديو محمد توفيق، لكن كان وراء ذلك كله، جماعة حلوان أو ما يُعرف باسم الحزب الوطنى الأول، حركة مصر للمصريين، كان هناك زخم وتراكم ثقافى وفكرى من أيام الخديو إسماعيل.
مع ثورة ١٩، بدا الأمر وكأننا بإزاء رد فعل غاضب من عجرفة المعتمد البريطانى مع مطلب سعد زغلول ورفاقه بالسماح لهم بالسفر لعرض مطلب المصريين بالاستقلال أمام مؤتمر عصبة الأمم، مطلب بسيط وهين للغاية، كان سعد ومن معه متحمسين ويستندون على تصريح الرئيس الأمريكى ويلسون حول حق الأمم التى ترزح تحت الاحتلال فى نيل الاستقلال بعد انتهاء الحرب، لكن نفوس المصريين كانت معبأة بالإهانات البريطانية طوال سنوات الحرب العالمية الأولى، وكذلك مطلب الاستقلال الذى لم يتناساه المصريون لحظة، جعل الزعيم مصطفى كامل والحزب الوطنى منه شعارًا عامًا وقضية حياة.
يلفت النظر أنه مع الأحداث الملتهبة لثورة سنة ١٩١٩، كان فى المكتبة تراث واسع من الكتب والأفكار التى تتوافق مع روح ومناخ الثورة، من ذلك كتابات رفاعة الطهطاوى، خاصة كتابيه «مناهج الألباب المصرية فى مباهج الآداب العصرية»، هو كتاب عظيم ورائد فى التأصيل للوطنية المصرية، وكذلك كتابه «المرشد الأمين للبنات والبنين»، كتاب تربوى وسياسى رفيع المستوى، هو غاية فى التقدم بمعيار اليوم (٢٠٢٣)، وهناك كذلك أعمال الشيخ محمد عبده، خاصة مقالاته، وأعمال قاسم أمين، لم تكن هناك رغبة فى إعادة طبع هذه الأعمال ولا استنساخ أفكارها، وكان هناك إنتاج فكرى جديد، تمثل فى أعمال الشيخ على عبد الرازق وطه حسين ومحمد حسين هيكل والشيخ مصطفى عبد الرازق وغيرهم وغيرهم.
قدم هؤلاء جميعا أفكارا جديدة تناسب اللحظة التى عاشتها مصر وعبرت عما يتطلع إليه المصريون من استقلال تام وتحرر واسع، ولا بأس من أن بعض هذه الأفكار لم ترق سعد زغلول نفسه، ولا ضير فى أن يقف ضد بعضها، قادة الثورة والزعماء لا ينبغى أن يكونوا نسخة كربونية ولا أن يحذو الجميع حذو الزعيم «حذو النعل بالنعل»، كما يقول حكماء العرب، التعدد والاختلاف دليل ثراء وغنى، النسخة الوحيدة المتكررة دليل فقر وضحالة الفكر والخيال.
قدمت الثورة كذلك فنًا جديدًا، صاغه سيد درويش، حيث التخلص من الإرث العثمانى فى الموسيقى والطرب، ولم ينتبه كثيرون إلى أن تلك الروح هى التى سمحت لابنة الريف أم كلثوم أن تفد إلى العاصمة وهى فقيرة ومبتدئة ولم تتعلم، لديها موهبة وطموح لتصبح خلال عقد من السنوات «كوكب الشرق». باختصار- ثورة ١٩١٩- تجربة وطنية وثورية تعتز بنفسها وتؤمن بلحظتها التاريخية وتجربتها الخاصة، لم يكن ذلك قطيعة مع التاريخ ولا عداء مع جيل الآباء، الاستمرار والتواصل كان قائما بالفعل، لا ننسى أن سعد زغلول نفسه، كان أحد شباب العرابيين وحقق معه، بعد فشلها وعوقب.
ولما قامت ثورة يوليو٥٢، لم يكن لدى الضباط الأحرار مشروع خاص بهم ولا تصور سياسى وفكرى متميز، كان لديهم رفض واحتجاج على كثير من الأوضاع، وأمام السهولة والسرعة التى تنازل بها الملك فاروق عن الحكم، وجدوا أنفسهم فى سدة الحكم، فاعتمدوا المشروع الوطنى المصرى، الذى استقر فى الوعى العام منذ مطلع القرن العشرين، الاستقلال التام والاتجاه إلى التنمية وتحقيق العدل الاجتماعى.
ولذا ساندهم كبار الكتاب بدءا من لطفى السيد وطه حسين وعباس العقاد، ثم توفيق الحكيم وغيرهم، وتواصلت حالة التعدد والتنوع الثقافى، عبد الرحمن بدوى يقدم الوجودية بمنظوره هو، كما كان يفعل منذ نهاية الثلاثينيات، د.زكى نجيب محمود يدفع بكتابه «خرافة الميتافيزيقا»، ثم كتابه «الشرق الفنان» ويواصل تبنى «الوضعية المنطقية» فى محاضراته الجامعية وكتبه، كان قد شرع فى ذلك منذ عودته من جامعة لندن سنة ١٩٤٧.
وفى عز الوحدة بين مصر وسوريا والهتاف للجمهورية العربية المتحدة، يحذر د.حسين فوزى، بكلمات حادة ومباشرة من القومية العربية فى كتابه «سندباد مصرى»، كان الكتاب رسالة واضحة وقوية على أن هناك تيارا بأكمله لا يرحب بكل ما يجرى والخطوات التى تتم، بهذه الرحابة الفكرية أمكن للضباط الأحرار، رغم محدودية الخبرة وتواضع ثقافة بعضهم، أن يقودوا البلاد ويحققوا كثيرا من الإنجازات الكبرى، وارتكبوا- مثل غيرهم- كذلك العديد من الأخطاء.
تجربة ٢٥ يناير ٢٠١١، مثل غيرها، سبقتها حركة ثقافية واجتماعية تعبر عن القلق والرفض لكثير من الأمور التى كانت تجرى عند قمة الدولة والمجتمع، كثير من الكتابات فى الصحف وفى عدد من الكتب، عبرت عن ذلك القلق وحالة الرفض، ومنذ سنة ٢٠٠٥، سادت عبارات مثل «النظام دخل غرفة الإنعاش».. «النظام يعيش ربع الساعة الأخير»، وعبارات أخرى عديدة تحمل نفس المعنى، كان الكل يدرك ذلك، لكن تمت الاستهانة بهذا كله من رأس الدولة، ربما ثقة بالغة بالذات وربما استنادًا على الحل الأمنى.
بدأ التحرك يوم ٢٥ يناير، تحركا معلنا وبموافقة رسمية وثقة مبالغ بها، وفق مقولة «إحنا مش تونس»، ثم قامت القيامة فى ٢٨ يناير، حيث كتبت نهاية النظام السياسى، وما جرى حتى يوم ١١ فبراير، حين تخلى مبارك عن موقعه، تفاصيل وترتيبات أو إجراءات.
بعد مغادرة مبارك موقعه، تم طرح كتب قديمة، على الأرصفة وبأسعار زهيدة، أشرنا إلى بعضها فى المقال السابق، تريد أن تأخذنا إلى مراحل مضت، فضلا عن أن هذه الكتب وما تضمه من أفكار، لا تقوم إلا فى مجتمع مضطرب تماما ودولة متشددة وطائفية، أو مجتمع عنصرى يقوم على التمييز بكافة أنواعه وإبادة المغاير (بالمعنى الحرفى).
الثورة تقدم الجديد أو تطور ما كان قائما من الإيجابى ومحاولة البناء عليه، لا أن تجرى محاولات استنساخ أفكار وكتابات قديمة، من المفترض أنها على رأس قائمة الثورة للإطاحة بها والتخلص منها.
شغل الكثيرون وقتها بتأليه الثورة والثوار، بالغ البعض فى تعمد نفى كل تاريخنا ونفى كل من ليس معهم، فى حروب تصفية، لإحن خاصة أو محاولة الوثوب إلى الأمام وشغلوا تماما، هناك من تواطأ، مع أولئك الذين رفعوا علينا كتاب «معالم فى الطريق» وغيره من كتابات مشابهة.
محاولة استنساخ تلك الأفكار واستعادة تلك الكتب تعنى أن هناك تحت مسمى الثورة، من أرادها ظلامًا يسبح فيه ويرتكب كل ما يريد دون أن يراه أو يمسك بتلابيبه أحد، أو فوضى يقفز من خلالها بالنموذج الذى سبق رفضه مرارًا وتكرارا سياسيًا واجتماعيا وثقافيا.
باختصار كانت تلك الأفكار والكتب مؤشر فشل.