وضع الوزير، رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان السابق، محمد فائق، فى سيرته الذاتية «مسيرة تحرر»، ذاكرتنا على جانب مما يمكن تسميته- تجاوزًا- الصراع الناصرى/ الساداتى فى السنوات العشر الأولى من حكم الرئيس حسنى مبارك.
فى الشارع لم يكن هناك جدل كبير، استراح كثيرون لانتقال السلطة بسرعة وتجاوز لحظة اغتيال السادات فى المنصة، وكانت مشاعر المواطنين قد أُرهقت من المعارك الكلامية التى خاضها السادات مع خصومه فى خطب وأحاديث مطولة، كان عموم المواطنين يريدون الاسترسال فى حياتهم اليومية بعيدًا عن المشاجرات السياسية. كثير من المصريين رددوا وقتها أن الرئيس الجديد سوف يكون قويًّا وحازمًا مثل عبدالناصر.
كان الصراع معلنًا ومفتوحًا، على مستوى بعض النخب، من اللحظة الأولى لتولى مبارك السلطة، بل يمكن القول إن وجود مبارك نائبًا للرئيس لم يكن موضع ترحيب عدد من الساداتيين، مبارك ذكر لمحمد فائق اسمى اثنين منهما، وهما من العيار الثقيل، كانا يكيدان له، قال مبارك إنه لم يكن يعرف مصيره لو استمر الوضع على ما كان عليه، وهو قول يفتح الباب أمام تأويلات واستنتاجات عديدة حول ما كان يجرى فى الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس السادات فى الفترة السابقة على جريمة اغتياله.
مبارك حاول ونجح فى استعادة علاقات مصر بالعالم العربى، مع الاحتفاظ بمعاهدة السلام التى وقّعتها مصر سنة ٧٩ واعتمدها مجلس الشعب وطُرحت للاستفتاء العام، كان ذلك هدفًا استراتيجيًّا لديه، ورفض العروض التى جاءته بأن استعادة العلاقات مرهونة بإلغاء اتفاق السلام.
لم تكن هناك مشكلة لدى كثير من «الساداتيين» فى استعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج لأسباب عديدة، أبرزها أنه لم يصدر من تلك الدول ما ينم عن عداء وكراهية مع السياسة المصرية ومع الرئيس السادات شخصيًّا، باختصار لم يفجروا فى الخصومة، تعاملوا مع الموقف باعتباره خلافًا سياسيًّا، كانت المشكلة بالنسبة لهؤلاء فى استعادة العلاقات مع قادة جبهة «الصمود والتصدى»، المقصود تحديدًا الرؤساء صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافى، هؤلاء استهدفوا السادات شخصيًّا ومَن حوله، (اغتيال يوسف السباعى أثناء وجوده فى قبرص سنة ١٩٧٨ نموذجًا)، وتم اكتشاف محاولة لاغتيال إحسان عبدالقدوس بالقاهرة، فى نظر كثير من الساداتيين فإن قادة الصمود والتصدى تلاميذ فى مدرسة عبدالناصر، وهو قول يتسم بالتبسيط والتسطيح الشديدين.
الأمور على هذا النحو بدت وكأنها عودة إلى سنوات الناصرية، بتحديد أكثر سنوات «مراكز القوى»، خاصة أن الرئيس مبارك تعامل بود مع رموز تلك المرحلة مثل محمد فائق وشعراوى جمعة، ولم يقع أى خلاف بعد مع محمد حسنين هيكل، كان الراحل أسامة الباز، مستشار الرئيس، يقوم أحيانًا بزيارات مكوكية بين الاتحادية ومكتب هيكل، وكان عدد من كبار المسؤولين يحرصون على التواجد فى الصف الأول بندوة هيكل السنوية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب.
وأمام الشعب المصرى تقدم مبارك جنازة على صبرى، نائب رئيس الجمهورية السابق، كان كثيرون قد نسوا الرجل، خاصة أنه آثر الصمت بعد خروجه من السجن سنة ٨١، لم يقم بأى دور، يمكن للمدقق أن يعتبرها مسألة عادية من مبارك، ذلك أن على صبرى كان فى الأصل طيارًا مقاتلًا، مبارك أحد الذين تتلمذوا عليه، فضلًا عن أن الرئيس عبدالناصر عيّن «الفريق طيار على صبرى»، بعد هزيمة ٦٧ مستشار القائد الأعلى لشؤون القوات الجوية، وظل فى موقعه ذلك حتى يوم ٢ مايو ٧١، حين أقاله السادات من جميع مناصبه.
وراح مبارك يستعين بعدد من المحسوبين على التجربة الناصرية مثل د. مصطفى الفقى، سكرتير الرئيس للمعلومات، وهو موقع جد خطير لدى الكثيرين، نفس الموقع الذى شغله سامى شرف زمن عبدالناصر، الأخطر من ذلك استعانة الرئيس بالدكتور رفعت المحجوب، قوى الشكيمة، رئيسًا لمجلس الشعب؛ وحيث إنه لم يكن هناك نائب للرئيس، فقد كان هو الرجل الثانى فى الدولة، المؤكد أن ذلك لم يكن غائبًا عن الكثيرين، خاصة أولئك الذين عايشوا الاختفاء المفاجئ للرئيس، كما حدث مع عبدالناصر والسادات. وجود هذا الرجل أزعج كثيرًا من الرؤوس العتيدة داخل الحزب الوطنى الديمقراطى، والذين اعتبروا وجوده تهديدًا كاملًا لهم، من ناحية يشغل مقعدًا تطلع عدد منهم نحوه، ثم إن رأيه يؤخذ بعناية فى بعض التشريعات وبعض مَن يُختارون فى مواقع معينة، بعض المحافظين مثلًا. فى المجلس تصدى المحجوب بقوة وحسم لبعض الآراء التى طالبت بمزيد من الليبرالية الاقتصادية والتخلص من عبء العمالة المتراكمة فى جهاز الدولة.
حاول خصوم المحجوب إحراجه وزحزحته عدة مرات، إحداها بسبب واقعة تورط شقيقه فى قضية مالية والأخرى عن عمولة زعموا أنه تقاضاها، وكان جسورًا فى الرد، نعرف الآن أن هناك مَن حاولوا تحريض الرئيس عليه، ويبدو أن مبارك كان راضيًا عن تلك الخصومات والصراعات. فى النهاية متنفس لكل فريق، ولا يسمح هو بنصر حاسم ولا هزيمة محققة لأى منهما، والحق أنه كان بعيد النظر فى ذلك، كان كل طرف يريد إقصاء الآخر، هو جمعهما معًا على نفس المائدة، ولسان حاله يقول إنه لابد من وجود الطرفين، وعلى كل أن يؤكد وجوده.
هذا الصراع بدا على صفحات بعض الصحف، القلقون من ظهور الناصريين رفعوا بنادقهم على اسم عبدالناصر وتجربته، المثال المعروف كتاب أنيس منصور «عبدالناصر المفترَى عليه والمفترِى علينا»، الذى نُشر أسبوعيًّا فى «أخبار اليوم»، وفى سبيل إدانة عبدالناصر لم يتردد الأستاذ أنيس فى تبنى مظلومية سيد قطب؛ البعض وقتها ذهبوا إلى أنه يرد على كتاب هيكل «خريف الغضب»، بل يقدم كتابًا موازيًا له عن عبدالناصر، ولا يمكن قبول هذا التفسير، هناك مسافة زمنية بين الكتابين تتجاوز ست سنوات، كانت هناك منطقة تفاهم بالصمت واحترام زمالة قديمة مع هيكل، بل إن أنيس لم يستجب لمطلب السادات بأن يهاجم هيكل.
ظنى أن أنيس لم يكن مهتمًّا بالدفاع عن السادات، لكن كان المقصود تحذير مبارك، لنقل تخويفه من الاقتراب أو التلامس مع الناصريين. فى بعض الجلسات الخاصة سمعت منه إشارات جانبية تشيد بعبدالناصر، وفيما يخص الديمقراطية والديكتاتورية، قال لى مرة فى حديث خاص بإحدى جلسات المجلس الأعلى للثقافة: «عبدالناصر والسادات ومبارك متشابهون فى الديكتاتورية.. سيبك من أى كلام تانى».
أما مسألة سيد قطب فأتصور أنها كانت مغازلة للإسلاميين، كان يتخوف أن يحاولوا اغتياله، كان على قوائم الاغتيالات، فإذا كانوا قد وصلوا إلى الرئيس السادات شخصيًّا، وحاولوا عدة مرات مع الرئيس مبارك، فلن يبعد هو أو غيره عنهم.
لم يكن عبدالناصر ولا السادات فى معركة الثمانينيات مقصودًا لذاته، بل صار كل منهما عنوانًا لخيارات وسياسات معينة، وكان مبارك يحاول التوفيق فى سياساته بين التجربتين، سلام السادات والعلاقات القوية مع الولايات المتحدة بما يتطلبه ذلك من قدر من الانفتاح الاقتصادى وهامش من حرية التعبير وكذلك الحفاظ على العدالة الاجتماعية وقوة الدولة.
ويمكن القول إن اغتيال د. رفعت المحجوب صباح يوم الجمعة ١٢ أكتوبر سنة ١٩٩٠ وضع حدًّا لذلك الصراع، فقد دخل الإرهابيون على الخط، وأصبح القتل والدم لغة الخلاف.
سوف تبقى قضية اغتيال المحجوب غريبة، خاصة بعد شهادة وزير الداخلية محمد عبدالحليم موسى فى المحكمة أنه كان المقصود بالعملية، هذه الشهادة أطلقت الكثير من الشائعات واللغط حول تلك الجريمة البشعة، ولا تزال بحاجة إلى دراسة وبحث تاريخى حول جرائم الإرهاب فى بلادنا، مَن يحرك هؤلاء ويحدد لهم أهدافهم؟، وهل هى مصادفة أن أول مَن يصيبهم رصاص جماعات الإرهاب هم مَن تتخوف منهم القوة العظمى أو مَن تنفض يدها منهم؟!.
كان اغتيال رفعت المحجوب بداية لتراجع المد الناصرى فى حقبة مبارك وتراجع الكثير من الأفكار التى بدأ بها مبارك، مثل شعار «صُنع فى مصر».
مع هذا التراجع خفّت حدة التراشق الصحفى والإعلامى ما بين التجربتين السابقتين، وانتبه الكل إلى اللحظة الحاضرة وخطر الإرهاب، الذى بدا أنه يمكن أن يعصف بالجميع.
اغتيال المحجوب كان بداية تراجع الحزب الوطنى نفسه، فى أول انتخابات نيابية جرَت بعد اغتياله، لم يرشح حزب الأغلبية أى سيدة، وردد أمين عام الحزب وكذا أمين التنظيم وقتها أن المرأة «لا تنجح». لم يكن ذلك هو التراجع الأخير للحزب. المهم أن الثمانينيات بدأت باغتيال الرئيس السادات، وانتهت باغتيال رئيس البرلمان د. رفعت المحجوب.