الثلاثاء الماضى، كانت ذكرى رحيل «عباس محمود العقاد»، الصحفى والشاعر والناقد والمؤرخ، المفكر صاحب الإسهام الأدبى والفكرى البارز، منذ بدايةً الحرب العالمية الأولى وحتى رحيله فى مارس سنة ١٩٦٤.
ستون عاما بالتمام والكمال مضت على رحيله، مرت الذكرى دون أن تتذكره المؤسسات أو الجمعيات والهيئات الأدبية والثقافية، أهلية كانت أو رسمية.
كان العقاد صارمًا كناقد ومبدع كبير، حادًّا فى كلماته، قاسيًا فى بعض المواقف، الأمر الذى أكسبه الكثير من الخصومات، فى مختلف مراحل حياته، الخلافات الفكرية والنقدية ارتدت، فى بعض الحالات، أقنعة سياسية، فى المقابل هناك من حاول الاحتماء باسمه فى مواقفهم، خاصة بعد رحيله.
فى نهاية الأربعينيات ومطلع الخمسينيات اختلف مع بعض الكتاب الصاعدين، فى طرق التعبير والأفكار، فاعتبروه رجعيًا، ثم عده البعض «معاديًا للثورة»، ثورة يوليو ٥٢، كانت تلك تهمة شائعة وقتها، غير مأمونة العواقب، تجاوز الأمر حدود الاتهام إلى ما يمكن أن نعده تحريضا عليه، فقد قيل للرئيس جمال عبدالناصر إن العقاد يهاجم الاشتراكية، وكان رد الرئيس «إذا كان العقاد يهاجم الاشتراكية فإن طه حسين يدافع عنها»، المعنى هنا أن الرئيس يدرك التحريض على الكاتب الكبير وأنه ليس بصدد مسألة سياسية تمس الدولة، لكنه أمام إبلاغ صغير، وليس مستعدًا للتجاوب مع هكذا وشايات، المسألة فى نطاق الخلاف الفكرى مقبولة، لدينا من يهاجم ومن يدافع، الفكر بالفكر والرأى بالرأى.
عن المحرضين وأولئك الذين حاولوا تسخير الأجهزة واستخدام الحاكم فى خصوماتهم وخلافاتهم الشخصية غالبًا، أو تلك التى تقع فى نطاق اختصاصهم على مدى تاريخنا الثقافى والأدبى، حدث ولا حرج.
وقع ذلك طوال التاريخ، فى مصر وفى منطقتنا، بل حول العالم كله، منذ أن حكم على الفيلسوف العظيم سقراط بتجرع السم، مرورا بإعدام عبدالله بن المقفع وحتى مطاردة ابن رشد وإحراق مؤلفاته وشروحه لأعمال أرسطو.
فى تاريخنا المعاصر تم استنفار الوالى عباس ضد رفاعة الطهطاوى بوشاية صغيرة، حول طبعة جديدة من كتابه «تخليص الإبريز»، فنفاه إلى السودان على النحو المعروف.
أحد زملاء د.منصور فهمى فى البعثة إلى فرنسا، أراد أن يعطله عن مناقشة رسالة الدكتوراه، كى لا يسبقه، فأرسل إلى الجامعة يتهمه ويطلب منعه من المناقشة، ولما لم تنصت إدارة الجامعة له واصل التحريض بعد أن عاد منصور فهمى فكان ما كان، حيث فصل من الجامعة ومنع من تولى أى وظيفة وذهب إلى قريته يفلح الأرض، إلى أن انقلب رأسا على عقب، تنكر لأفكاره، كى يعود إلى الجامعة، فعاش متهمًا من الجميع، وتكررت كثيرا بعد ذلك، مع آخرين بطرق متباينة وفى مراحل عديدة.
لكن هل كان العقاد معاديا، لنقل إنه كان كارهًا لثورة يوليو وهل كان يهاجم الاشتراكية فعلًا؟.
.. الغريب أن بعض «المقولات المعلبة» والأحكام المتطايرة فى باب الخصومات والخلافات العادية، تجد قبولًا وتترسخ مع الوقت، حتى لدى الفرقاء والخصوم.
من ذلك أن بعض محبى العقاد تقبلوا آراء خصومه، لكن صاغوها وفق أحلامهم ورغباتهم هم، فقالوا إنه كان يعادى عبدالناصر، بل وينتقده فى مجالسه، راحوا يتحدثون عن أشياء صغيرة، مثل أن رجال الرئيس أبعدوا الميكرفون مسافة عن فم العقاد وهو يلقى كلمته فى معرض تكريمه من الرئيس، وكان الهدف أن لا تصل كلماته إلى القاعة، وتسأل لماذا؟، يردون أن رجال عبدالناصر طلبوا الاطلاع على الكلمة قبل إلقائها فرفض العقاد بإباء، حكايات تليق بجلسات النميمة والتفريج عن الهم. فى هذا الجانب ولدى محبى العقاد الكثير من الأساطير حوله، لا تضيف إليه ولا إلى تاريخه شيئا، لكنها لبت انبهارهم به.
من شدة الإلحاح على هذه الآراء وتكرارها استقر فى ذهن كثيرين أن العقاد كان معاديًا للثورة وأن طه حسين كان صوتها والمعبر عنها.
الذين أطلقوا حكاية عداء العقاد لثورة ٥٢، استندوا على اقتناعه وإيمانه بزعامة سعد زغلول وثورة ١٩، هو صاحب كتاب «سعد زغلول.. سيرة وتحية»، وهو واضح من العنوان أنه يقدر ويكبر سعد بمنطق المكايدة أو المفاضلات الحتمية؛ من يحب سعد وثورة ١٩، لا بد أن يكره عبدالناصر وثورته.
فات هؤلاء أن العقاد منذ سنة ١٩٣٥، اختلف بضراوة مع زعيم الوفد مصطفى النحاس وصار خصما عنيدا للوفد كله، إلى الحد الذى جعله يهاجم بضراوة معاهدة ١٩٣٦، ورأى أنها أعطت الإنجليز كل ما حصلنا عليه بعد ثورة ١٩، ولو أنهم قرأوا جيدا كتابة عن سعد لأدركوا أنه صارح سعد باختلافه معه فى موقفه وموقف الوفد من كتاب على عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم».
فاتهم كذلك أن العقاد لم يكن محكومًا بالثنائيات التقليدية التى احتكم إليها الكثيرون، كان لديه دائما موقفه أو منطقه الخاص، هو مثلًا اعتبر سعد زغلول الزعيم والتعبير عن الشخصية والوطنية المصرية، لكنه هو نفسه حمل تقديرا وإكبارًا شديدين للثورة العرابية وقادتها، خاصة أحمد عرابى (الثنائية التقليدية أن من يدافع عن ثورة ١٩، يلعن بالضرورة أو يمقت الثورة العرابية)، هو كذلك اعتبر، فى كتابه عن الإمام محمد عبده، تحرك الجماهير والعلماء سنة ١٧٩٥، ضد أمراء المماليك ثورة حقيقة، قبل أن يطأ نابليون وجيشه بلادنا.
واقع الحال أن الأستاذ عباس محمود العقاد، كان من أشد المتحمسين لما وقع فى يوليو ٥٢، من اللحظة الأولى، لم يتوقف عند التسمية.
يجب القول إن العقاد أصدر كتابه المهم عن الثورة العرابية «١١ يونيو ١٨٨٢.. ضرب الإسكندرية» فى مطلع يوليو ١٩٥٢، الكتاب عن الثورة العرابية وما جرى فيها من الإنجليز والخديو محمد توفيق، ورغم صغر حجم الكتاب إلا أنه من أعمق وأدق ما كتب عنها، يحمل دفاعًا نبيلا عن عرابى وصحبه، ودفاعا عن الرغبة المصرية العميقة فى التحرر من الاستبداد والتسلط الأجنبى. صودر الكتاب فى منتصف الشهر، أى بعد أسبوعين من إصداره ثم أفرج عنه بعد مغادرة الملك مصر بيومين، فيما بعد كتب أنه راعى فى الكتابة أن الأسرة العلوية لا تزال فى الحكم وأن الخديو محمد توفيق هو عم مباشر للملك فاروق، مع ذلك لم يسلم الكتاب من تربص وملاحقة الرقابة.
كتب العقاد، سنتى ١٩٥٢/١٩٥٣، سلسلة مقالات فى مجلتى «الهلال» و«الكتاب»، الأخيرة كانت تصدرها دار المعارف، فى تفسير خطوات الثورة وتمجيد ما اتخذته من إجراءات وقرارات، بدءًا من تنازل الملك فاروق عن العرش.
كتب فى الهلال أنه تحدث مع بعض المترددين عليه، منذ سنة ٥١ فى أن ثورة قادمة على «الطاغية»، هكذا نعت الملك وأنه يتوقع قيامها من داخل الجيش أو من علماء الأزهر، عنوان أحد المقالات فى الهلال كان «الجيش وقائده»، دار حول تحرك الجيش لإنقاذ البلاد من الفوضى التى عمت البلاد فى الشهور السابقة على يوليو ١٩٥٢.
حين صدر قانون الإصلاح الزراعى الأول، أغسطس ٥٢، نشر فى مجلة «الكتاب»، دراسة معمقة، عن ملكية الأراضى الزراعية فى آسيا وفى وسط أوروبا وغيرها، وانتهى إلى القول إن واجب كبار الملاك فى مصر، أن يرحبوا بالقانون الذى أصدره اللواء محمد نجيب، لأنه بذلك حماهم من قيام فوضى شيوعية، كانت على الأبواب، تقتلهم وتنتزع كل ما لديهم، وأبدى دهشته الشديدة من امتعاض بعضهم من القرار ومعارضتهم له، باختصار ثورة وخطوات اللواء محمد نجيب وزملائه أهون لهم من شبح لينين وستالين فى روسيا، قال أيضا لو كانت لدينا حركة نقابية قوية تهتم بحقوق العاملين فى الزراعة وتنمية المنتج والمحاصيل، ما كنا احتجنا لمثل ذلك القانون.
الحق أن فريقًا من كبار الكتاب والسياسيين كانوا متخوفين جدا من احتمال نشوب ثورة على غرار الثورة الروسية، لذا ارتضوا تحرك الضباط الأحرار وساندوه، ربما كان الملك فاروق نفسه من أنصار ذلك التخوف.
لم يكن الأستاذ العقاد يكتب عن الإجراءات التى اتخذت فقط، لكنه كان يقدم بعض الاقتراحات أيضا من ذلك مقاله فى مجلة الهلال، فى ذروة تلك الأيام، الذى حمل عنوان «عالم الكتابة والكتاب فى حاجة إلى التطهير»، توقف فيه أمام ظاهرة «المصاريف السرية»، التى كانت تقدمها السفارة البريطانية لبعض الصحف والكتاب، أشار فيها إلى تجاربه الشخصية، الصحف التى أغلقت والكتاب الذين طوردوا، وكذلك الذين تم دعمهم ماديًا وسياسيا، لم يذكر أحدا بالاسم، لكن من يعرف مسيرته ومعاركه الصحفية لعقود، والمناخ العام منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يتبين الإشارات والتلميحات، فى تلك الأيام هناك من ذكروا بعض الأسماء فاعتبر ذلك إبلا غا رسميا ضد زملاء المهنة.
بعد وفاة العقاد انبرى ابن شقيقه عامر العقاد وبعض مريدى الأستاذ، فى جمع مقالاته وإصدارها فى كتب منفصلة، هكذا فعل طاهر الطناحى الشاعر والباحث، مدير تحرير مجلة الهلال، حيث أصدر للعقاد «رجال عرفتهم» ثم «أنا»، لكن سوف نلاحظ أن مقالاته فى سنوات الخمسينيات الأولى، خاصةً تلك التى تتعلق بثورة يوليو، لم تجمع فى كتاب أو أكثر، رغم أهميتها البالغة، ربما كان هناك تخوف لدى كل فريق من أن تهدم تلك المقالات سرديته الخاصة عن العقاد وعن موقفه من ثورة يوليو، لكن ماذا عن موقفه من عبدالناصر؟.
الحديث ممتد.