هناك قلق متزايد فى عدد من الدول الأوروبية من ظهور مؤشرات لموجة جديدة من العداء للسامية، عبر مسؤولين كبار عن هذا القلق، كما عبر عنه أيضا عدد من الكتاب والباحثين. فى ألمانيا أعلن عدد من المسؤولين قلقهم وانزعاجهم بعد حوادث وقعت لمواطنين يهود، وفى بريطانيا، حدث شىء مشابه، وفى فرنسا أيضا، ظهر هذا القلق، وكان هو الدافع للبيان الذى وقعه ساركوزى وزملاؤه بخصوص القرآن الكريم.
معاداة السامية، تعنى فى المقام الأول، العداء المطلق لليهود، عداء على الهوية، أى كراهية اليهود لمجرد أنهم يهود، وهذه الظاهرة عرفت فى أوروبا، تحديدا وسط وشرق أوروبا، فى منتصف القرن التاسع عشر، وبلغت ذروتها فى أوروبا كلها مع نهاية ذلك القرن، المصطلح نفسه «ضد السامية» أو العداء للسامية، صكه باحث ألمانى، إذن نحن بإزاء ظاهرة أوروبية بامتياز، من حيث النشأة، وقد ازدادت فى القرن العشرين، مع الحرب العالمية الأولى، حيث جرى اضطهاد جماعى لليهود، فى مناطق عديدة من شرق أوروبا، فى تلك المجتمعات، لم يكن هناك تأثير يذكر للثقافة العربية ولا للثقافة الإسلامية، ولم يعرف أى مكون عربى ولا مكون إسلامى لتلك الظاهرة؛ بل لم يكن هناك أى ود تجاه الثقافة العربية أو الإسلامية فى الغرب، ولم يكن انتشر وجود المسلمين هناك. سواء من المهاجرين أو أبناء تلك البلدان.
بل إننا نجد، أمراً يدعو إلى التأمل، حين ظهرت قضية الجندى «دريفوس» فى فرنسا، وهو جندى اتهم بالخيانة وحكم عليه بالإعدام، وكان الاتهام ظالما والحكم متعسفا، وتبين أن ذلك الظلم وقع عليه، لأنه يهودى، وقد تصدى الكاتب «إميل زولا» لتلك المحاكمة الظالمة وقام بوضع كتابه «إنى اتهم» عنها؛ وقتها تابعت بعض الصحف المصرية.
حاول بعض الباحثين الأوروبيين أن يخففوا من تلك الظاهرة، وذهبوا إلى أن كراهية اليهود، لم تكن بسبب هويتهم، ولكن لأنهم كانوا يتحكمون فى الاقتصاد الأوروبى وتلاعبوا به، وأظن أنه من الصعب قبول هذا التفسير والركون إليه، حالة الجندى دريفوس تثبت ذلك، لم يكن هذا الجندى غنيا، ولا كان متحكما فى الاقتصاد الفرنسى، كان إنساناً بسيطاً للغاية وحاق به الظلم، لأنه يهودى، والحق أن الثقافة الغربية برواسبها وخلفياتها المعقدة، سمحت وقبلت بهذه الظاهرة، ولما جاءت الحرب العالمية الأولى بدأت عمليات طرد وتهجير جماعى ليهود من أوروبا الشرقية، وكانت مصر هى التى فتحت بابها وقلبها الرحيم والإنسانى لاستقبالهم، وفتح لهم الخديو عباس حلمى قصره بالإسكندرية لينزلوا به، وكان يشرف بنفسه على إقامتهم وتقديم الرعاية الكاملة لهم.
راجع فى ذلك مذكرات جويدان هانم زوجة الخديو، مما دفع الطائفة اليهودية فى مصر أن توجه بيان شكر للخديو.
وصلت المأساة إلى ذروتها فى «العداء للسامية» أثناء الحرب العالمية الثانية مع الزعيم النازى «أدولف هتلر»، الذى أراد إبادة اليهود جميعاً، ليس اليهود فقط، بل الغجر أيضا، وكان يريد إبادة كل من هو ليس من الجنس الآرى، وأقام المحرقة «الهولوكست» وتمكن من اعتقال وإعدام حوالى 6 ملايين يهودى، وهنا لابد من التوقف أمام أمرين، الأول.. أنه كان هناك إعجاب بهتلر بعض الوقت، فى عدد من القطاعات فى بلادنا، وكان الإعجاب من منطق أنه عدو الإنجليز، وقام بتدويخهم، أى «عدو عدوى صديقى، وهى نظرية كارثية، لكن البعض أعجب به كراهية فى الإنجليز.
الثانى.. أنه حدث خلاف بين بعض الباحثين العرب، حول عدد ضحايا الهولوكست من اليهود، فهناك من رأى أن الرقم مبالغ فيه جداً، كان عباس محمود العقاد، من أنصار هذا الرأى، لكن الخلاف حول الرقم، لا ينفى وقوع الهولوكست.. وفى كل الأحوال لم يكن هتلر ع��بياً ولا كان مسلماً، ولا عرف القرآن الكريم ولا درسه، وكراهية اليهود كانت متجذرة فى أعماقه، ومرة أخرى، يجب ألا ننسى أن هتلر كان ابن الثقافة والحضارة الغربية، وليس فى مكوناته العضوية والثقافية والدينية أى مؤشر عربى أو إسلامى؛ بل بات من المؤكد أنه كان بين ضحايا المحرقة (الهولوكست) أعداد من المسلمين، صحيح أن عددهم لم يكن كبيرا قياسا إلى اليهود، يقدر عدد المسلمين بالعشرات، وهو رقم جد محدود إلى جوار ملايين اليهود، وما أقصده أن المحرقة أصابت المسلمين أيضا وإن كان رمزياً.
ويعرف الدارسون للحركة الصهيونية، وللفكرة الصهيونية ذاتها، أن العداء لليهود فى أوروبا فى القرن التاسع عشر وما قبلها، كان سبباً رئيسياً لبروز تلك الفكرة والدعوة إلى إنشاء وطن قومى لليهود، ولولا هذا الاضطهاد لما فكر اليهود فى أن يتركوا أوروبا ويأتوا إلى فلسطين، يقيمون فيها المستعمرات والمزارع مع نهاية القرن التاسع عشر، فلسط��ن كانت موجودة مدى التاريخ، وكان اليهود موجودون أيضا، طوال التاريخ فى بلدان العالم المختلفة، ومع ذلك لم تظهر فكرة الوطن القومى، ولم تساند أوروبا الفكرة الصهيونية إلا كى تتخلص من عقدتها تلك، وإن شئنا الدقة عارها الإنسانى، وقد حاولت التخلص منه بعار أشد فى حق الفلسطينيين والعرب عموماً.
ويحمل كثير من الفلسطينيين والعرب الألم والغضب تجاه «بلفور» وزير خارجية بريطانيا، صاحب الوعد المشهور فى نوفمبر 1917. لكن هتلر يستحق غضبا وكراهية أشد، فقد كانت المحرقة سببا فى هجرة مئات الآلاف من اليهود إلى فلسطين، وبسبب المحرقة صار إنشاء وطن ودولة لليهود أمراً حتمياً بالنسبة للغرب كله، قبل هتلر كان الأمر مختلفا كثيرا، دعك الآن من الإعجاب الساذج بهتلر لدى الحاج أمين الحسينى، وغيره من جماعة الإخوان الإرهابية، الذين أطلقوا شائعة أن «هتلر» اعتنق الإسلام، وصار اسمه الحاج محمد هتلر.
ذلك حديث التاريخ.
حديث الحاضر يرصد ظهور بوادر موجة جديدة من العداء للسامية فى أوروبا، يقف خلف هذه الموجة، بعض الاتجاهات الشعبوية فى أوروبا، وبعض المتأسلمين الإرهاربيين، من الدواعش، صحيح أن معظم ضحايا الدواعش من المسلمين، لكنهم يتجهون إلى غير المسلمين، المسيحيين فى بلادنا، مصر وإندونيسيا نموذجاً، وتجاه اليهود فى أوروبا، كما وقع فى باريس، والغريب أن ساركوزى ومن معه لم يدينوا داعش ولا الإرهاب والإرهابيين، بل القرآن الكريم ذاته، وللحديث بقية.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع