من يقرأ الفصل الأول من كتاب «الطريق إلى رمضان»، يدرك أن مؤلفه الأستاذ محمد حسنين هيكل كان العقل المحرك للسادات في معركة مايو ١٩٧١، مع على صبرى وشعراوى جمعة وسامى شرف.. هيكل هو الذي اقترح على السادات اسم د. محمود فوزى رئيسًا للوزراء، باعتباره اسمًا دوليًا معروفًا جيدًا في دوائر الغرب، ويرتبط اسمه وتاريخه السياسى في الداخل باسم وتجربة عبدالناصر؛ وهو الذي تولى مفاتحة فوزى وإقناعه، لأن السادات كان متخوفا من احتمال رفضه المنصب الكبير.. وهو كذلك صاحب فكرة أن يخوض السادات معركته مع الآخرين تحت شعار «الديمقراطية والحريات»، لاجتذاب تعاطف الرأى العام في مصر والغرب كذلك.
الكتاب صدر باللغة الإنجليزية، وتُرجم إلى العربية في بيروت، عبر «دار النهار»، ولم يطبع في مصر سوى مرة سنة ٢٠١١، بطريق القرصنة أو التزوير، طبعًا دون استئذان المؤلف، فضلًا عن أن النسخة كانت رديئة.. حتى عنوان الكتاب لم يخل من خطإٍ، ويبدو أن المؤلف كان قد اعتبر الكتاب نتاج مرحلته، فقد عاد إلى الكتابة عن حرب أكتوبر بتوسع شديد في كتابه المتميز «السلاح والسياسة»، ضمن مجموعته حول حروب الثلاثين عاما، ولذا استبعد ملف صراع أو معركة مايو ٧١.
الكتاب كان عن حرب أكتوبر، وأن يبدؤه بمعركة مايو ٧١ فمعناه أنه ينسب نصر أكتوبر كاملا إلى السادات وليس إلى عبدالناصر كما قال بعض الخبراء، غير أن الكتاب صدر بعد أن كان هيكل غادر الأهرام، ولم تكن علاقته وقتها طيبة بالسادات، فضلا عن أن الأخير اعتبر أن هيكل لم يبرزه كما ينبغى في قرار عملية الحرب.
ما ذكره هيكل في «الطريق إلى رمضان» عن دوره في ١٥ مايو جعل خصومه- فضلًا عن المختلفين معه- يعدونه «عرّاب» تلك العملية، ويحملونه المسؤولية عن نظام السادات كله. مازلت أذكر إحدى الجنازات سنة ١٩٨٩، وكان الأستاذ هيكل يجلس في مسجد عمر مكرم إلى جوار الأستاذ محمد فائق وآخرين، كنت إلى جوار أحد شيوخ المهنة من الجيل القديم، ولما شاهدهم قال لى نصا: «شوف يا أخى هيكل قاعد جنبهم، ولا كأنه رماهم في السجن».
كان ذلك مبالغة شديدة في دور هيكل، الرجل لم يكن رئيسًا للجمهورية، ولكن هذه التصورات انطلقت مما ورد في كتاب «الطريق إلى رمضان».
لكن من يقرأ رواية السادات في «البحث عن الذات»، لن يجد لهيكل أي دور في تلك الأحداث، السادات هنا كان عازمًا على الديمقراطية قبل أن يتولى، وكان ناقمًا على هذه المجموعة، رافضًا أساليبهم وممارساتهم.. غنى عن القول أن كتاب السادات صدر وقت فتور علاقته هو والأستاذ هيكل، فضلًا عن أن السادات عهد بصياغة الكتاب إلى أحد خصوم هيكل.
السيدة جيهان السادات طُرح عليها سؤال من أحد الصحفيين حول دور هيكل باعتباره كان محرك الأحداث أو صانعها في ٧١.. تعاملت مع السؤال بتهكم شديد حمل استخفافا بالفكرة واستنكارا لها، لكنها لم تخض في التفاصيل.
المفكر المعروف د.فؤاد زكريا، في كتابه «كم عمر الغضب؟» اعتمد رواية هيكل، لكنه وجه إلى ذكائه الذي عرف به نقدًا حادًا مفاده أن السادات وقد أقدم على الإطاحة بـ«على صبرى» ومجموعته كان سيواصل حتما طريقه ويطيح بهيكل نفسه. ورغم أن د. فؤاد زكريا خصص كتابه لانتقاد هيكل والتجربتين الناصرية والساداتية إلا أنه أبدى تعاطفا شديدًا مع هيكل في هذا الموقف.
حاول هيكل في كتابه «خريف الغضب» تبرير- لا أقول اعتذار- مساندته التامة للسادات في تلك الفترة. وذكر أنه راهن على ثقل مسؤولية موقع الرئيس لصقل شخصية السادات وإبراز جوانب جديدة فيه، ضرب مثلًا لذلك بالرئيس الأمريكى هارى ترومان.
واقع الحال أن «الأستاذ» كان يقدم بعض احترازات أو ما يمكن أن نسميه «نقطة نظام» أمام قارئ خريف الغضب، الذي يواجه على صفحات الكتاب تشريحا بالغ الحدة والقسوة لشخصية السادات منذ طفولته، ينتهى الحال بالقارئ إلى أن السادات، الذي حكم مصر لمدة ١١عاما إلا أياما، لم يكن يصلح لأى منصب عام، ناهيك عن أن يكون رئيسًا للجمهورية. لم يكن هيكل بحاجة إلى كل ذلك لو أنه عدل منهجه في تناول شخصية السادات، ومن ثم الحكم على أدائه الرئاسى. كما لم يكن بحاجة إلى تبرير لموقفه المساند للسادات منذ توليه مهام الرئاسة، وحتى فبراير ١٩٧٤ تاريخ الفراق بينهما.
كانت لحظة وفاة جمال عبدالناصر وفراغ السلطة المفاجئ أقوى من كل الأطراف في الساحة السياسية المصرية وقتها، وكان عبدالناصر عبقريًا في جمع الأضداد أو المتناقضين حوله، ليس تناقضًا فكريًا وسياسيًا فقط، بل تناقضات حتى على المستوى الشخصى بينهم. يمكن أن نرى ذلك رغبة منه في وجود تعدد وتنوع حوله ليثرى الرؤى والأفكار في محيط عمله وتحركاته، وإن كان البعض فهموا ذلك بالمعنى الخبيث، أي أنه كان يفضل أصحاب التناقضات والإحن الشخصية في علاقاتهم حتى لا يصيروا تكتلًا قد يناوئه يوما أو في موقف ما.
الأمر المؤكد أن على صبرى ورجال الاتحاد الاشتراكى العربى ما كانوا يودون أن تذهب الرئاسة إلى السادات، لكنه كان أفضل المتاح أمامهم، أو أقلهم ضررًا بالنسبة لهم.. ربما تصوروا ذلك؛ هو لم يكن واحدا منهم، ولم يكن يحبهم، لكنه لم يعلن العداء لهم.. أما زكريا محيى الدين، فقد كان يمقتهم وهو رجل قوى يتخوفون منه.
هيكل كان يعى جيدا أنه مستهدف شخصيًا من على صبرى والاتحاد الاشتراكى العربى كله، ولو أتيحت لهم الفرصة لأجهزوا عليه نهائيًا.
حين ألقت المخابرات العامة القبض على الأستاذ مصطفى أمين، في صيف سنة ١٩٦٥، متهمًا بالتخابر مع ضابط الـ«سى.آى.إيه» في مصر، كان التعليق داخل مجموعة على صبرى، أن الأحق بالقبض عليه هو هيكل، لأنه أخطر كثيرًا من مصطفى. وتساءل بعضهم: متى يتم إلقاء القبض عليه ومحاكمته بنفس التهمة؟، استنادا إلى أن هيكل من نفس مدرسة مصطفى الصحفية والسياسية، فضلًا عن الصداقة القوية بينهما.. يضاف إلى ذلك رحلات هيكل العديدة إلى الولايات المتحدة وصداقاته العديدة مع شخصيات أمريكية وأوروبية عديدة. ردد وقتها بعض الصحفيين المحيطين بالاتحاد الاشتراكى وقياداته تلك الفكرة الخرقاء.
وشكا هيكل من أن رصاصة أطلقت على سيارته، مرت فوق سقف السيارة أثناء خروجه وتحركه من مبنى الأهرام حين كان لايزال في الشريفين. تلاميذ هيكل اتهموا رجال الاتحاد الاشتراكى وقتها، هناك من أشار بإصبعه إلى على صبرى شخصيًا.
الأجهزة الأمنية رفضت الاعتراف بأن رصاصة أطلقت. بعض الصحفيين شككوا في الواقعة كلها، واعتبروا ذلك مجرد ادعاء لخلق مزيد من الأهمية. الرجل كان مهما بالفعل. أيا كان الأمر، الأستاذ هيكل كان متأكدًا من أن الرصاصة أطلقت وأنهم هم من وقفوا خلف العملية.
وحين كتب هيكل في الأهرام مطالبًا بضرورة العمل على تحييد أمريكا، أي التوقف عن العداء معها، جرى تناول الأمر في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى برئاسة على صبرى واعتبرت تلك الدعوة «خيانة»، ورمى أصحابها بالعمالة للولايات المتحدة، فخرج هيكل في حوار بالتلفزيون المصرى أجرته السيدة همت مصطفى وزميل لها ليشرح هيكل بهدوء فكرته.. نعرف الآن أن تلك الفكرة تعود إلى الرئيس عبدالناصر شخصيًا.
هناك كذلك أن على صبرى كان محاطًا بمجموعة من الصحفيين، كان لديه عمود يومى ينشر في جريدة «الجمهورية»، تردد وقتها أن الأفكار لعلى صبرى، لكن الصياغة والكتابة يتولاها أحد كبار الصحفيين وقتها.. هؤلاء الصحفيون كانوا من مدارس صحفية تختلف مهنيا مع مدرسة هيكل، فضلًا عن أنهم لم يكونوا يحملون ودًّا شخصيًّا نحو هيكل.
هيكل، من جانبه، انتقد مرارًا الاتحاد الاشتراكى، وأشار تلميحًا إلى على صبرى، وسمح بنشر مواد في الأهرام تنتقد ذلك التنظيم.. ومن واقع بعض التسجيلات التليفونية التي سمح بنشرها بعد مايو، تكشف أن على صبرى كان حادًا ويستعمل كلمات قاسية.. باختصار، لو أتيحت له الظروف لافترس هيكل حرفيًا.
السادات بالنسبة لهيكل كان أفضل المتاح، لقد تعمد عقب وفاة ناصر نشر صورة زكريا محيى الدين نائب الرئيس سابقًا ورجل تنفيذى مشهود له بالصرامة ولا يحب السوفيت، يفضل الولايات المتحدة،لكنه كان قد ابتعد باختياره.. الواضح أنه ما كان يرغب في العودة.. تجربة الهزيمة في ٦٧ أثرت عليه، خاصة بعد ما جرى من المشير عامر ومجموعته، ولم تكن جماعة الحكم التي تمركزت بعد ٦٧ تريده، كانوا يخشونه.
دعم السادات كان الاختيار الواقعى الوحيد المتاح أمامه.
الحديث ممتد..