حينما احتلت بريطانيا مصر سنة ١٨٨٢، وضعت قيودًا عديدة أمام دخول أى مصرى إلى سيناء، كان من الميسور أن يتحرك المواطن فى أى مكان داخل وطنه، لكن الوصول إلى سيناء كان يحتاج إذنًا كتابيًّا من الحاكم العسكرى لمعرفة سبب الزيارة ومدتها واسم مَن سيقابل هناك، عمليًّا جعل الاحتلال من سيناء أقرب إلى أن تكون منطقة أجنبية، الدخول إليها أو الخروج منها يحتاج إجراءات ومعاناة خاصة.
كان هذا الموقف من سلطة الاحتلال متسقًا مع موقف بعض الرحالة الأجانب وتيار فى الثقافة الغربية، متأثر بالرؤية التوراتية، يعتبر سيناء جزءًا بعيدًا عن مصر وأقرب إلى أن يكون من منطقة الشام الكبرى، كانت مصر بالنسبة لهم هى بالأساس منطقة الوادى والدلتا، لذا لم يكن غريبًا أن يزور «تيودور هيرتزل»- الأب الفعلى للحركة الصهيونية- مصر سنة ١٩٠٧، حيث جاء ليتفاوض على أن تكون سيناء مقرًّا للوطن القومى الذى يبحثون عنه لليهود، طبعًا إلى جوار فلسطين، التى كانوا قد أسسوا فيها بالفعل عددًا من المستعمرات (المستوطنات)، وأخذوا يضعون أسس دولة إسرائيل، فشلت مهمة هيرتزل فى القاهرة، وقوبل طلبه بالرفض القاطع.
وقد لا يعلم البعض أن إسرائيل فى نهاية حرب ١٩٤٨ قررت أن تنقل المعركة إلى داخل مصر، اخترقت إحدى طائراتها الحربية المجال الجوى المصرى، حتى وصلت إلى القاهرة، وحلّقت فوق قصر القبة، مخترقة حاجز الصوت، فى تهديد مباشر للملك فاروق.
فى الوقت نفسه تحركت قوة برية إسرائيلية نحو سيناء، فواجهت عند منطقة العوجة مقاومة باسلة من قوة بالجيش المصرى، كبّدتها خسائر فادحة، وارْتَدّت منهزمة.
من حسن الحظ أن الروائى الشهيد يوسف السباعى وضع روايته «طريق العودة» عن تلك المعركة، قائد تلك المعركة كان صديقًا وزميلًا لـ«السباعى»، صدرت الرواية سنة ١٩٥٦، وحققت نجاحًا أدبيًّا وجماهيريًّا وقتها. المؤسف أن طباعة أعماله توقفت فى السنوات الأخيرة لخلافات بين الورثة والناشر.
خرجت القوات الإنجليزية نهائيًّا من مصر، وانتهى الاحتلال سنة ٥٦، ثم وقع فى السنة نفسها العدوان الثلاثى، كان دور إسرائيل فى الحرب احتلال سيناء، ثم أُجبرت على الخروج منها، مما ولّد العديد من المخاوف التى جعلت دخول سيناء أو الخروج منها مصحوبًا بإجراءات أمنية مزعجة للمواطن، والحق أنه كان هناك مَن نبّه إلى ضرورة تعمير سيناء، وجعلها منطقة جاذبة للسكان.
العالِم الجيولوجى الراحل د. رشدى سعيد أصدر فى عام ٥٧ كتيبًا صغيرًا بعنوان «تعمير سيناء»، قدم فيه تصورًا علميًّا محددًا، يهدف إلى عدم تركها خالية.
حتى حرب الخامس من يونيو ٦٧، حيث أُعيد احتلال سيناء، لم يكن هناك انتباه إلى قيمة وأهمية سيناء سياحيًّا، صحيح أنه كانت هناك شركة بترول سيناء ومشروع المناجم، لكن هذا كله لم يُنْهِ عزلة سيناء، كان هناك بعض المهندسين والفنيين الذين يعملون فترة ثم يعودون، لكن لا توجد حياة مستقرة ولا مجتمع كبير.
بعد حرب أكتوبر، وإتمام تحرير سيناء، لم يتغير الأمر كثيرًا، إهمال سيناء أغرى بعض مهربى المخدرات وتجار البشر بجعل منطقة الحدود فى شمال سيناء مرتعًا لهم، الأمر الذى عرّض الدولة المصرية لأن تكون فى بعض التغطيات الصحفية الأمريكية خاصةً موضع اتهام بالتقصير والعجز عن حماية حدودها، كان ذلك حتى يناير ٢٠١١.
تجاوزت المسألة حدود عصابات التهريب إلى منطقة أشد خطورة، وهى تخطيط ميليشيات الإرهابيين بإقامة ولاية خاصة بهم فى أقصى شمال سيناء، يرفعون عليها راياتهم السوداء، ويُقيمون إمارتهم الخاصة، فى انتهاك مباشر للسيادة المصرية، فى نفس اللحظة تقريبًا ظهرت لدى إسرائيل فكرة اقتطاع نفس الجزء من سيناء وضمه إلى غزة لإقامة ولاية غزة الكبرى بديلًا عن إقامة الدولة الفلسطينية، ويبدو أن هناك آخرين غيرهم كانوا يتبنون تلك الفكرة.
حلم إقامة ولاية الراية السوداء تصَدّت له الدولة المصرية، قدمت القوات المسلحة المصرية منذ سنة ٢٠١٣ ثلاثة آلاف الشهداء لاجتثاث الإرهاب والإرهابيين من تلك البقعة فى أقصى شمال سيناء، آلاف الشهداء، أحدهم هو العقيد أحمد المنسى وجنوده، أبطال «عملية البرث»، صيف سنة ٢٠١٧.
حلم ضم جزء من سيناء إلى غزة تراجع، وظهر مكانه مشروع تهجير مليون مواطن من سكان غزة إلى تلك المنطقة بزعم أنها «صحراء واسعة». سمعنا ذلك بصوت مرتفع منذ بدء عملية «طوفان الأقصى».
الفراغ والتصحر يُغريان المهربين والإرهابيين والطامعين والمحتلين والمتربصين والأعداء والكارهين، وهم كثر.
حين قرر سليم الأول غزو مصر واحتلالها، كانت ذريعته أن الحجاج الأتراك أثناء مرورهم فى سيناء اعترضهم بعض اللصوص، الذين سرقوهم وقتلوا بعضهم. الفراغ يثير لعاب الكثيرين، الآن الحلم هو دفع مليون مواطن فلسطينى إلى سيناء، حيث تكون وطنًا بديلًا.
والواضح أن قيادة الدولة كانت متحسبة لذلك، ولديها تصور بكافة الاحتمالات، لذا وجدنا خطة تنموية ضخمة لسيناء فى مشروع (مصر ٢٠٢٠- ٢٠٣٠)، تمت توسعة وتجديد ميناء العريش البحرى ليكون صالحًا لاستقبال السفن الضخمة وربطه بمشروع تنمية قناة السويس، وكذا الحال بالنسبة لمطار العريش، فضلًا عن شبكة ضخمة من الأنفاق تحت القناة من سيناء وإليها وشبكة طرق حديثة. إلى جوار ذلك عملية تنمية زراعية وصناعية شاملة، رصدت الدولة أكثر من ستمائة مليار جنيه لتلك الخطة.
من باب التنطع السياسى وليس المعارضة، واجهت الدولة فيضًا من الهجوم والاتهام بالإنفاق غير الرشيد لأنها أقدمت على تلك المشروعات فى سيناء شمالًا وجنوبًا، وكانت هناك مطالب بإعادة النظر فى ذلك الإنفاق.
إسرائيل تريد دفع مليون مواطن من غزة إلى سيناء، الدولة المصرية رفضت وحذرت، وزير الخارجية الأمريكى «بلينكن» فى لقائه مع الرئيس السيسى قال إنه سمع من قادة المنطقة رفضًا لتلك الفكرة، وهذا يعنى أن الأمر كان مطروحًا لدى الخارجية الأمريكية، ومن ثَمَّ البيت الأبيض ذاته.
خبرتنا بالسياسة الغربية عمومًا، أوروبيًّا وأمريكيًّا، أن الأفكار والمشروعات لا تموت ولا تفنى، يمكن أن تكمن سنوات، وربما عقودًا، ثم يُعاد تدويرها، بتعديل الاسم وتغيير الصياغة.
الرفض الصارم مصريًّا على مستوى رئاسة الجمهورية والدولة كلها والتضافر الشعبى رائع، يتناغم ذلك مع رفض عربى رسمى وشعبى، ثم رفض فلسطينى تام سواء من السلطة الوطنية أو من حماس. رئيس المكتب السياسى إسماعيل هنية قال: «قراركم قرارنا فى هذا الأمر»، أما الرئيس محمود عباس فقد رفض ذلك تمامًا حين طرحه عليه د. محمد مرسى، وأعاد تجديد هذا الرفض الأسبوع الماضى.
إلى جوار هذا الموقف الصلب رسميًّا وشعبيًّا، نحتاج خطوات أخرى إضافية، أهمها أن نعمل فورًا على بناء مجتمع ضخم فى تلك المنطقة، مليونى العدد، نبدأ بمليون مواطن ومواطنة خلال خمس سنوات، ونحن كمصريين لدينا خبرة واسعة فى تاريخنا الحديث والمعاصر فى بناء المجتمعات والمدن.
مدن القناة بُنيت جميعها حديثًا. القاهرة ذاتها، حتى مجىء محمد على، كانت تقبع داخل حدودها الإسلامية، أحياء مثل العباسية ومصر الجديدة ومدينة نصر والزمالك وجاردن سيتى، فضلًا عن «وسط البلد» وغيرها، كلها بُنيت حديثًا، لن أتحدث عن مدن، مثل 6 أكتوبر والعاشر من رمضان وغيرها، كلها وُضعت أول (طوبة) فيها زمن الرئيس السادات، هل لنا أن نؤسس مجموعة من المدن والمجتمعات السكنية وما تقتضيه من وحدات خدمية وإنتاجية فى تلك المناطق، التى يشير إليها بعض الإسرائيليين بطمع شديد، قائلين إنها «صحراء واسعة»؟.
نحن نستطيع، ويجب أن نفعل.