توقيت القاهرة المحلي 10:32:35 آخر تحديث
  مصر اليوم -

حملات خطرة

  مصر اليوم -

حملات خطرة

بقلم - حلمي النمنم

لم تكن هناك معارضة تُذكر للضباط الأحرار حين تحركوا ليلة ٢٣ يوليو، ذلك أنهم تحركوا نحو مقر وزارة الحربية ولم يتجهوا إلى القصر الملكى ولا إلى أى من مقار الحكم، خاصة مقر مجلس الوزراء أو مقر مجلس النواب أو مقر الإذاعة، كما هى العادة فى مثل هذه الحالات، فهى كثيرة، خاصة الملك فاروق ودائرته، إنهم بإزاء مجموعة غاضبة من الضباط بسبب أوضاع خاصة بهم فى قيادة الجيش ليس أكثر، أى أن المشكلة بتعبيرنا الآن «مطلب فئوى».
فى تلك الفترة، عرفت مصر مثل هذه الأزمات، ذات يوم أَضربَ رجال البوليس، لذا كان تفكير الملك من اللحظة الأولى الاستجابة لهم وعدم التصعيد ولا الدخول فى جدل أو صراع معهم، كان الملك هو من طلب تدخل اللواء نجيب لديهم لتسوية كل شىء، بدأوا بتغيير قيادة الجيش، منح الملك اللواء نجيب رتبة الفريق وعينه قائدا عاما، ثم تغيير الحكومة والمجىء بحكومة جديدة، هم الذين طالبوا نجيب الهلالى رئيس الحكومة بتقديم استقالته بعد أقل من٢٤ ساعة على أداء اليمين الدستورية هو وحكومته؛ رشح الملك لهم اسم على ماهر فوافقوا عليه، كانت الخطوة التالية إزاحة الملك نفسه.. فى مذكراته، ذكر المحامى الوفدى إبراهيم طلعت أنه كان ضمن الذين بادروا بالاتصال بعدد من الضباط الأحرار، يقترح ضرورة الدخول على «الراجل الكبير» نفسه، أى الملك، كان إبراهيم طلعت صديقا قديما لعبدالناصر، منذ أن كان الأخير يعيش فى الإسكندرية.

جانب كبير من نجاح الضباط الأحرار فى ٢٣ يوليو يعود للملك فاروق شخصيا، الرجل لم يقاوم ولم يستغل الأدوات التى لديه ضدهم، كان طيّعًا جدًا، إنه حتى لم يطلب تخصيص معاش له ولا طلب تعويضًا عن أملاكه التى ورثها عن والده، كان مطلبه الأعز أن يغادر فى وداع رسمى بصفته ملكا تنازل «طوعًا» عن العرش. من اللحظة الأولى، كان حريصا على أن يجنب البلاد التدخل البريطانى واحتلال العاصمة مجددًا، وكان مُصرًا على عدم تكرار تجربة عمه الخديو توفيق مع أحمد عرابى سنة ١٨٨٢، هو قال ذلك صراحة لضباط الحرس الملكى الذين طلبوا أن يأذن لهم فى مواجهة مسلحة مع المتمردين.. طبقا لرواية محمد حسنين هيكل، فإن نجيب الهلالى (باشا) هو الذى نصح الملك بتجنب خوض صراع وذكّره بواقعة توفيق وعرابى.. أيا كان الأمر، يُحسب هذا الموقف للملك.

كل هذا يقودنا إلى الحملة الكاسحة التى بدأها الأستاذ مصطفى أمين ضد الملك فاروق وجرجر الصحافة المصرية كلها خلفه، إذ تحول الأمر إلى ما يشبه «فرض عين» على كل صحيفة وكل صحفى أن يهاجم فاروق؛ الواقع أن الحملة خلقت أساطير حول الملك، جعلت منه مادة للتندر والسخرية دون الانتباه إلى أنه كان حاكم مصر، وللموقع جلاله الذى لا يجب استباحته، امتد الأمر إلى أعمال أدبية عديدة.. الكاتب الكبير توفيق الحكيم له مسرحية بعنوان «الخروج من الجنة» تدور حول زواج الملك فاروق من الملكة ناريمان صادق، يظهر فيها الملك باسمه وكذلك الزوجة وأمها وأبوها ووووو، استباحت المسرحية الكثير من الخصوصيات دون أن نعرف هل المسرحية عمل فنى بحت أم تسجيلى ووثائقى!.

فى روايته «وكالة عطية» يعتمد خيرى شلبى أسطورة المائة زوج حمام التى تغلى لتصبح شربة للملك قبل تناوله للطعام، دليل على الفحولة الجنسية.. وهكذا، مازال بعض الزملاء من الكتاب يتبنون بعض هذه الأساطير، رغم تكشف وقائع تفرض استبعادها تمامًا، لكنها صارت أقرب إلى الفولكلور والتى يعاد استنساخها أو كتابتها من جديد بتصرف وإضافات جديدة.

لم تكن هذه الحملات التى تبارى الكثيرون فيها مبررة سياسيا ولا أخلاقيا، ثم إنها كانت مضرة على المدى البعيد بالنظام الجديد الذى كان قيد التشكل.

لم تكن مبررة، لأن الملك خرج متنازلًا عن العرش وليس معزولًا.. وفى الكلمات التى تبادلها مع اللواء محمد نجيب قبل وداعه يتبين اقتناع فاروق بأنه فشل أو لم ينجح، وأن المهمة التى تنتظرهم صعبة وثقيلة، وتمنى له التوفيق، وبالتالى لم يكن هناك أى احتمال أن يطالب بالعرش مجددًا كما فعل الخديو عباس حلمى، ولا أن يسعى لتجنيد أعوان دوليين لدعم عودته، كما حاول الخديو إسماعيل.. وفضلًا عن ذلك، لم تكن هناك أطراف دولية على استعداد لمساندته.. تجربة محمد مصدق والشاه محمد رضا بهلوى فى طهران، لم تكن قابلة للتكرار فى مصر، لتباين الظروف بين مصر وإيران الشاهانية.

الإنجليز كانوا يكرهونه، وكرههم هو إلى حد المقت. الولايات المتحدة سهّلت ورحبت بتنازله عن العرش وخروجه من مصر، أما ستالين فكان يضعه على قمة الرجعية. عموم الشعب والقوى السياسية رحبوا بإنهاء حكم الملك وتسابقوا جميعا لزيارة الضباط فى مقر القيادة لتهنئة اللواء محمد نجيب وزملائه.

غير الملك فاروق لم يكن هناك بديل جاهز أو يصلح داخل العائلة الملكية، آل طوسون جميعًا غادروا مصر نهائيا منذ سنة ١٩٥٠، إثر خلافات حادة وقطيعة نهائية مع الملك، كانت الأسرة فى طريقها للتآكل، فرع إسماعيل باشا أزاح فروع العائلة الأخرى، ثم أزاح الملك فؤاد الآخرين من فرع إسماعيل، ثم أزاحت الملكة نازلى الجميع من أجل ابنها، ثم تولت هى وكذلك زوجته الأولى تدميره إنسانيًا وكسره من الداخل، التفاصيل فى ذلك مروعة إنسانيًا، الواقع أنه تعامل مع الضباط الأحرار يوم ٢٣ يوليو وحتى خروجه بمنطق «بركة يا جامع»، كان قد تعرض لضربات وهزائم عديدة.. لكن البعض بِقِصَر نظر تاريخى تصوروا أن «العهد البائد» يمكن أن يعود ثانية، رغم أن عددا من أفراد الأسرة العلوية تعاونوا مع ضباط يوليو من اللحظة الأولى، ومن بينهم الأميرة فايزة شقيقة الملك.. بتحديد أكبر لم يكن هناك احتمال لعودة الملك أو بروز اسم جديد من العائلة الملكية.

قائد يخت المحروسة الأميرالاى جلال علوبة، والذى قاد اليخت فى خروج الملك، أبدى فى مذكراته دهشته من أن أحدًا لم يحزن لخروج الملك من مصر، فضلا عن تنازله عن العرش.

بدأت الحملة بكشف بعض أسرار حياة الملك وخصوصياته، لكنها بعد ذلك تشعبت وقادت إلى أمرين كلاهما سيئ ومدمر:

الأول: كشف عنه بوضوح جمال عبدالناصر فى كتابه «فلسفة الثورة»، حين شكا من أن كثيرين تصوروا فى الشهور الأولى أن الثورة فرصة للانتقام من خصومهم الشخصيين وتصفية ثارات وإحن خاصة قديمة، شكا كذلك من كمية الشكاوى الكيدية التى وصلتهم، عشرات من الكبار ذهبوا إليهم وتصوروا أنهم سيسمعون منهم اقتراحات وأفكارا للمستقبل، لكنهم وجدوا مطالب ملفوفة بذبح الآخرين وإزاحتهم. وقال لو أنهم استجابوا لعلقوا المشانق وأعدموا المئات، الواقع أن ذلك كان سقوطا أخلاقيا، أقدم عليه الكثيرون وبات متكررًا، كلما انتقلنا من عهد إلى عهد، حتى لو كان الانتقال طبيعيًا.

الثانى وهو أشد خطورة: إذ تصور البعض وطالبوا بأن تكون ثورة يوليو قطيعة تاريخية تامة ونهائية مع ما سبقها.. ليس المقصود سنوات الملك فاروق الأخيرة فقط ولا سنوات حكمه كلها، بل كل تاريخ الأسرة العلوية، أى نحذف من ذاكرتنا كل القرنين التاسع عشر والعشرين حتى ١٩٥٢.. وهكذا فوجئنا بحملات صحفية تطالب بإزالة كل تماثيل أسرة محمد على، بما فيها تمثال محمد على نفسه وإبراهيم باشا. ونعرف قصة إزالة تمثال الخديو إسماعيل بالإسكندرية.

«سيد قطب» لحظة أن كان يهيم حبا بالضباط الأحرار، طالب فى مجلة «الرسالة»، أغسطس ٥٢، بمعاقبة المؤرخين والكتاب الذين أشادوا بأسرة محمد على، المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال اعتبر ذلك تحريضًا مباشرًا عليه هو وزملائه.. طالب سيد قطب كذلك بمنع الفنانين الذين غنوا للعهد البائد، وقد حدث أن منعت أغنيات أم كلثوم من الإذاعة لهذا السبب إلى أن تدخل مصطفى أمين لدى عبدالناصر فأنهى هذا الموقف.

لكن رغم هذا التدخل، فإن القطيعة حدثت والانقطاع تم.. لم يكن فاروق هو الخاسر الأكبر، عاش سنواته فى إيطاليا بالطريقة التى تريحه؛ الخاسر الحقيقى كان هو ذاكرتنا الوطنية والوعى التاريخى، صارت فترة ما قبل ٥٢ نهبا لكثير من الأكاذيب حينًا والادعاءات حينًا أخرى.

لا يعنى ذلك تجاهل السلبيات التى كانت، ولا أن نتجه إلى تجميل عصر الملك فاروق.. فارق بين التعامل مع مرحلة بالنقد التاريخى والقطيعة التامة أو نفى مرحلة من الذاكرة وتجاهلها التام أو تشويهها.. البعض اختزل تجربة محمد على فى «مذبحة القلعة»، واختزل عصر إسماعيل فى الديون، أما عصر فاروق فقد اقتصر على سكر فاروق الذى لم يثبت وووووو.

سنوات الملك فاروق شهدت الكثير من الإنجازات التى استمرت وتواصلت إلى اليوم.. لم يكن إنجاز فاروق فقط بل الحكومات والقوى الوطنية التى ناضلت وعملت بجد: إنشاء وتأسيس جامعتى الإسكندرية وعين شمس والشروع فى إقامة جامعة أسيوط، مجانية التعليم الابتدائى سنة ١٩٤٢، ثم مجانية التعليم الثانوى سنة١٩٥٠، الاهتمام الحقيقى من الدولة بالعدل الاجتماعى وغير ذلك كثير.. الملك فشل سياسيًا فى عامه الأخير وفقد شرعيته السياسية.

.. لكن هل كانت الحملة الصحفية عملا مهنيا مجردا أم موجهة سياسيًا، «موعزًا بها»؟!

الحديث متصل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حملات خطرة حملات خطرة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 04:54 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة
  مصر اليوم - الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة

GMT 10:32 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها
  مصر اليوم - ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين

GMT 11:46 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

جوارديولا يهنئ ليفربول بـ كأس الدوري الإنجليزي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon