تفيدنا كثيرًا شهادة وزير خارجية العراق السابق «خوشيار زيبارى» فى فهم فلسفة إنشاء الأذرع الإيرانية فى المنطقة العربية، الأمر الذى جعل مسؤولا إيرانيًا رفيعا يصرح منذ فترة بأنهم باتوا يسيطرون بالكامل على أربع عواصم عربية، ذكرها بالاسم، وتكملة التصريح أو ما لم يقله المسؤول «والبقية تأتى»، وهو ما أطلقنا عليه وقتها «أيرنة المنطقة».
زيبارى كان وزيرًا لخارجية العراق بعد سقوط نظام البعث سنة ٢٠٠٣، ظل فى ذلك الموقع ١١ عاما متصلة، وكان هذا الرجل مدهشا للكثير من المسؤولين العرب فى اجتماعات الجامعة العربية، هو كردى عراقى وكان شديد الحرص على أن لا يبتعد العراق عن عالمه العربى وبذل جهدًا كبيرًا فى سبيل هذا الهدف، سواء مع الدول العربية أو مع مختلف الأطياف بالداخل العراقى، مؤخرا أدلى زيبارى بحوار مطول لجريدة الشرق الأوسط، أجراه رئيس تحرير الجريدة الزميل الأستاذ غسان شربل، نشر عبر يومين متتاليين.
حكى الوزير السابق أنه كان فى زيارة إلى إيران هو ورئيس الحكومة العراقية وكذا رئيس الجمهورية، وهناك سمعوا ما يلى «إن نظام الجمهورية الإسلامية مهدد من الاستكبار العالمى ومن الصهيونية العالمية، لذلك نحتاج إلى أن نحمى نظامنا ونقاتل خصومنا وأعداءنا خارج بلدنا ونشكل قوات غير نظامية»، هذا ما سمعوه من رئيس البرلمان وقتها على لاريجانى وكذلك وزير الخارجية على أكبر ولايتى وقاسم سليمانى قائد فيلق القدس، الأخير زاد الوفد العراقى إيضاحا وتأكيدًا بالقول «ربما لا نقدر على دخول حروب تقليدية مع دول كبيرة بالتكنولوجيا وبقدراتها لكن فى الحروب غير التقليدية ممكن أن نهزمهم بالاعتماد على قوات محلية نحن ندربها ونهيئها وهذا ما يحدث فى المنطقة»، النص نشر يوم الثلاثاء، ٢٠ فبراير الماضى، الصفحة الرابعة.
هنا يحسن أن نتوقف أمام بعض المصطلحات التى قيلت وانطلقت ولا تزال تتردد إلى اليوم مثل «الاستكبار العالمى»، مصطلحات مطاطة، تفتقد الضبط العلمى، ليست محددة، بل كلمات وشعارات متطايرة، يمكن أن تقذف بها من تشاء، يفهم من الوهلة الأولى أن المقصود هو الولايات المتحدة الأمريكية، لكن عمليا وسياسيا لا يتم تسميتها ومن ثم لا تعتبر الولايات المتحدة أنها المقصودة والمعنية، عمليًا أيضا يمكن أن ترمى أى قوة محلية أو إقليمية بتلك التسمية، فضلًا عن أنها تكون مبررا لتصفية أى خصم، بدنيًا أو معنويا، وهكذا الحال بالنسبة لسائر المصطلحات الأخرى، فى حرب غزة الأخيرة رمت اللجان الإلكترونية معظم دول المنطقة بتلك المصطلحات.
يجب القول إن الثورة الإيرانية من اللحظة الأولى كان مخططًا لديهم «تصدير الثورة»، كان ذلك واضحا من التصريحات الأولى، فور نجاحها فى فبراير ١٩٧٩، بعودة آية الله خمينى من باريس وإعلان انتهاء حكم الشاة، وكانت مصر الهدف الأكبر، خاصة أن الرئيس السادات وقع معاهدة السلام مع إسرائيل فى السنة نفسها، فضلا عن انه استضاف شاه إيران محمد رضا بهلوى ليقيم ويعالج فى مصر بعد أن تنكر له الجميع بدءا من الإدارة الأمريكية. ولأسباب عديدة وجدت الثورة الإيرانية وقتها إعجابا وحماسا لدى عديد من أجنحة النخبة المصرية، يسارًا ويمينا.
حاول بعض اليساريين البحث عن طيف يسارى فى الثورة، وقد قام بذلك الدور الراحل أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة د.حسن حنفى بالتركيز الشديد على شخصية المفكر الإيرانى وضحية نظام الشاه «على شريعتى»، كان د.حنفى وقتها يبشر هو وبعض المثقفين بما أسماه «اليسار الإسلامى»، تولى هو التنظير لما أسماه اليسار الإسلامى وأسس دورية بهذا الاسم صدر عدد واحد منها، كانت تلك إحدى الموضات التى تطل علينا ثم تخبو سريعا، تسقط من الذاكرة وكأنها لم تكن. انتشرت تلك الموضة وقتها تجاوبًا مع الثورة الإيرانية وربما محاولة لحصار أو الالتقاء مع جماعة حسن البنا، وهكذا وجدنا د.حس حنفى يترجم وينشر بحماس كتاب آية الله خمينى «الحكومة الإسلامية» وكتاب «الجهاد الأكبر»، وقد أحيط نشرهما باحتفاء كثيرين، ربما مكايدة للسادات وسياساته.
أما الجماعات الإسلامية بالجامعات فقد تبنت طروحات «الاستكبار العالمى»، خاصة أنها فى جانب منها مستوحاة من كتابات سيد قطب، ولم تكن تلك الجماعات بعيدة عن جماعة حسن البنا، رغم أنها تأسست ونمت بضوء أخضر رسمى، من السادات شخصيًا.
حتى بعض القوميين رحبوا بالثورة لأنها تندد على طريقتها «بالإمبريالية الأمريكية» وكراهية فى الشاه، فات هؤلاء جميعًا أن الثورات لا تمثل قطيعة مطلقة مع ما سبقها، خاصة فى الأمور الاستراتيجية، بل ربما يكون من بين دوافع قيامها دعم تلك الأمور والقضايا ومنحها مسحة جديدة وهذا ما كان بالضبط سنة ١٩٧٩.
غير أن فكرة تصدير الثورة، التى أزعجت بشدة الرئيس السادات وقتها، تطورت فيما بعد إلى حد تكوين قوات غير نظامية والقيام بحروب خارج الحدود، حروب بالوكالة تخوضها أطراف محلية، على النحو الذى كشفه بدقة الراحل قاسم سليمانى. دعنا الآن من التسميات «قوات غير نظامية.. مليشيات.. أذرع.. حزب أو جماعة، لكن المضمون واحد، يترك لكل ذراع أو جماعة العمل فى محيطها، بما يحقق أهدافها المحلية ويضيف إلى قوة صاحب التمويل والتسليح والتدريب.
هنا يجب أن نعود بالذاكرة إلى الحرب العراقية/ الإيرانية (١٩٨٠/١٩٨٨)، وقد انتهت بأن أعلن آية الله خمينى أنه «يتجرع السم» ويقبل وقف إطلاق النار، كانت الخسائر فادحة فى الجيش الإيرانى، فضلا عن انهيار الروح المعنوية فى الداخل نتيجة التدمير الذى لحق بعدد من المدن، باختصار انتصر صدام حسين والجيش العراقى، دروس ونتائج تلك الحرب تفسر الكثير مما يحدث فى المنطقة إلى اليوم وتشرح ما سمعه الوزير العراقى فى طهران.
جرت معظم جولات الحرب على الحدود والداخل الإيرانى وليس خارجها، وكانت الإصابات عالية ومباشرة، وهنا نتفهم تجنب وقوع عمليات عسكرية واشتباكات مسلحة على الحدود وفى الداخل وكى يتحقق ذلك لا بد من الحرص على عدم وجود جيش قوى لأى دولة حدودية خاصة فى العراق، بل ضرورى إضعاف ذلك البلد والبلاد المحيطة، لا يفوتك أن العراق صمد فى الحرب وحقق انتصارًا بفضل الدعم العربى الكبير ماديا وسياسيا ولوجستيا، تسليح واستشارات عسكرية. باختصار عدم السماح بتكرار ذلك المشهد. هل يمكن القول إنه يتم معاقبة أو الانتقام من كل من شارك فيها أو ساعد العراق خلالها؟.
الخوف من وجود جيش نظامى قوى يعنى تشكيل قوات غير نظامية أو ميليشيات أول أهدافها تحدى الجيش النظامى والعداء له، على الأقل جعله بلا فاعلية وضعيفا إلى جوار القوة غير النظامية، وربما إسقاطه أن أمكن. تأمل الوضع جيدًا فى المنطقة العربية تجد مصداق ذلك فى أكثر من موقع.
القوات غير النظامية «الميليشيات»، لا تناوئ الجيش النظامى فقط، لكنها كذلك تسيطر عمليًا أو تشل المؤسسات السياسية فى الدولة بالكامل وتلغى سلطاتها، ثم إنها تحكم السيطرة على المجتمع ترهيبا واستباحة، إلى حد أن لا يأتى رئيس جمهورية أو رئيس حكومة دون رضاها، حتى لو كان الثمن خلو أى منصب منهما لفترة طويلة، فى وجود القوة غير النظامية لا معنى لوجود قوة ولا سلطة نظامية.
المفارقة أن هدف إضعاف الجيوش النظامية بالمنطقة وضربها بالميليشيات «غير النظامية» هو نفس الهدف الذى سعى إليه «ديفيد بن جوريون»، منذ تأسيس إسرائيل وسارت عليه الحكومات الإسرائيلية المتتالية، ربما حتى يومنا هذا. تقارب الهدف أو تشابهه لا يعنى بالضرورة تواطئا ولا عملا منظمًا، لكن يعنى تشابه المصالح والأهداف، ربما باستعمال نفس الأدوات واستخدام الفاعلين أنفسهم بوسائل مختلفة.
وتدخل على الخط هنا، فى كراهية الجيوش النظامية والعمل ضدها والتنديد بها، ضمنيًا دعم بعض الميليشيات والقوة غير النظامية، بعض الجماعات المهتمة بالمسائل الحقوقية والمدنية، كل لأهدافه وطموحاته الخاصة، لكنهم جميعًا يلتقون فى نقطة واحدة، قد يفسر ذلك سرعة تقافز البعض بين تلك التيارات والجماعات ومدى التداخل بينها والتحالفات الغربية (المريبة) بين حين وآخر، الاقتراب حينا والابتعاد حينا آخر، مع وجود نقاط اتفاق نهائية وخطوط حمراء لا يتجاوزها أى طرف، بما يشى بأن قوة مهيمنة تدبر وتنظم كل ذلك.