اكتسب يوم ٢٥ يناير ١٩٥٢ أهميته التاريخية، ليس فقط من بطولة وفدائية رجال الشرطة بالإسماعيلية، ولكن مما ترتب عليه من أحداث وتداعيات لعبت دورا فى تغيير وجه الحياة ومسار الأحداث السياسية والاجتماعية فى مصر.
بعض الوقائع فى التاريخ، تبدو مثل أحداث سابقة، متكررة بشكل ما، لكنها تصبح استثنائية ولا فارقة، بحكم أطرافها والفاعلين فيها وكذلك لحظتها التاريخية والمزاج العام السائد وقتها، ثم بما يترتب عليها من نتائج وتبعات، بحيث إن ما بعدها يكون مغايرا لما قبلها وربما مناقضا له.
تأمل مثلا إقدام الشاب التونسى «محمد بوعزيزى» على الانتحار محترقا، كان يمكن فى ظرف آخر إدانة الشاب وتأثيمه دينيا، لكن هذه المرة اختلف الأمر، لم يستعمل أحد كلمة انتحار وصار بطلًا ورمزًا.
فى تاريخنا الكثير والكثير، عزل الإنجليز الخديو عباس حلمى سنة ١٩١٤ ومنعوه من العودة إلى مصر، شعر المصريون بحزن، لم يرحبوا بمن حل محله، وراحوا يغنون «الله حى، عباس جى»، لكن تأمل حين رفض المعتمد البريطانى السماح لسعد زغلول وصحبه بالسفر إلى لندن لعرض مطلب الاستقلال فى مؤتمر الصلح، قامت ثورة ١٩، وحفظ الضمير المصرى زيارة سعد للمعتمد ورفض الأخير.
فى تاريخ البوليس المصرى كثير من البطولات فى مواجهة المجرمين والخارجين على القانون، ويسقط منهم الشهداء، يحدث ذلك إلى اليوم وسوف يستمر، يمكننا القول إن ذلك جزء من طبيعة العمل الذى يقومون به، كذلك لم يكن غريبا بطش الجيش البريطانى فى مصر منذ الاحتلال سنة ١٨٨٢، يكفى ما قاموا به فى «كفر عبده»، بعد إلغاء المعاهدة، دمروا الكفر بالكامل، لكن فى الإسماعيلية كانت البطولة مختلفةً، المواجهة مع قوات الاحتلال وفى لحظة اشتعال الحماس الوطنى إلى عنان السماء.
«مجزرة الإسماعيلية»، هكذا توصف أحداث ذلك اليوم فى شهادات وكتابات من عايشوا ذلك الحدث، كانت القوات البريطانية فى منطقة القناة ترد بوحشية وبربرية على عمليات الفدائيين المصريين ضدهم، واتهموا رجال الشرطة بمساعدة الفدائيين، على الأقل التعاطف معهم وغض النظر أو رفع الإبط، بتعبير أهل الشام، عما يقومون به، وهكذا قرروا تأديب رجال الشرطة «بلوك النظام »، فكانت المجزرة.
طلب القائد البريطانى من رجال الشرطة إخلاء مبنى المحافظة خلال ساعة والخروج دون أسلحتهم وإلا.. رفضوا الإنذار واتصل اللواء أحمد رائف من الإسماعيلية بوزير الداخلية فؤاد سراج الدين، الذى أقرهم على موقفهم وطلب منهم إبلاغ القائد بذلك، كرر القائد الإنذار ومنحهم ساعة أخرى، بعدها بدأت المواجهة غير المتكافئة، جنود يحملون بنادق بسيطة فى مواجهة قوة عسكرية لديها مدافع ثقيلة ومدرعات، صمد رجالنا حتى نفاد ذخيرتهم وكانوا بين شهيد وجريح.
كانت العمليات الفدائية نتيجة مباشرةً لقرار النحاس باشا يوم ٨ أكتوبر سنة ١٩٥١، إلغاء معاهدة ١٩٣٦ من جانب واحد، كان النحاس هو نفسه من وقع المعاهدة مع أنتونى إيدن وزير خارجية بريطانيا، وأطلق عليها عند التوقيع «معاهدة الشرف والاستقلال»، يوم الإلغاء أعلن من داخل البرلمان «من أجل مصر وقعتها ومن أجل مصر ألغيها».
وصلت أنباء ما جرى فى الإسماعيلية إلى القاهرة فكان حريق القاهرة فى اليوم التالى مباشرةً وكانت بداية الانهيار المتسارع لحكم الملك فاروق وللنظام الملكى برمته على النحو المعروف تاريخيًا.
وحتى الآن لا يزال حريق القاهرة غامضا أمام الكثيرين وتم اتهام معظم الأطراف، الكارهون للملك فاروق حملوه المسؤولية المباشرة لأنه كان يقيم وليمة فى القصر، ذلك اليوم بمناسبة مولد ولى العهد الأمير أحمد فؤاد (الثانى)، وكان كبار ضباط الجيش مدعوين، نشط الخيال إلى حد القول إنه دعا الضباط خصيصا، حتى يبقوا بعيدا فى القصر عن الشارع بما يمنح الوقت للحريق.
وكأننا بإزاء خطة ملكية لحرق العاصمة، البعض خفف الاتهام مكتفيا بأن إقامة الحفل كانت دليلا على أن الملك كان لاهيا تماما بأموره الشخصية عما يجرى فى عموم البلاد، غنى عن القول أن موعد المأدبة كان محددا من قبل، الدعوات وجهت، قبل مجزرة الإسماعيلية. غير أن سيناريو اتهام الملك يفترض أن كبار قادة وضباط الجيش كانوا يعملون فى الشارع وبين المواطنين!.
بعد خلاف الرئيس عبدالناصر مع «آل أبوالفتح»، اتهمه أحدهم بأنه شخصيا كان يوزع جراكن الكيروسين على الذين أشعلوا النيران، والحق أن ذلك يجعلنا نتساءل لماذا تعاونتم معه وقمتم بمساندته فى البداية وأنتم تعرفون ذلك عنه؟.
بعيدا عن هذه الآراء الفجة، التى تصدر عن مشاعر الكيد، تتجه العديد من الدراسات لهذه الواقعة إلى اتهام الإنجليز مباشرةً. وهناك بعض المقربين من القصر الملكى اتهموا الشيوعيين وجماعة مصر الفتاة، فى هذه الناحية وجهت بعض الصحف اتهاما إلى الحكومة بأنها ضمت عناصر «شيوعية»، وتم الحديث مباشرةً عن وزير المعارف العمومية د.طه حسين ودعوته الملحة إلى مجانية التعليم.
وضع هؤلاء طه حسين فى صفوف الشيوعيين لأنه تحدث عن المجانية، فضلا عن تحذيره من قسوة الفقر وغياب العدل الاجتماعى فى مجموعته «المعذبون فى الأرض»، إثر ذلك غادر طه حسين القاهرة، على غير عادته فى شهر يناير ولم يعد إلا بعد نهاية الصيف، وكان الزمن دار دورته.
وهناك من اتهم جماعة حسن البنا، خاصة أن الحرائق بدأت فى دور السينما والفنادق والمطاعم والكازينوهات الكبرى، وكل هذه المنشآت موضع هجوم وتربص من الجماعة، فضلا عن سجل الجماعة الطويل فى مجال الحرائق والتخريب.
السؤال الذى يستحق الاهتمام: هل كان ممكنا تجنب حريق القاهرة أو حصره فى أضيق نطاق؟.
الأخذ بنظرية المؤامرة وأن هناك خططا مسبقة لحرق العاصمة يجعل الأمور تبدو وكأنها قدر محتوم، لا يمكن الفرار منه، وقد ارتاح كثيرون إلى ذلك التصور، لكننا نجد فهما مغايرا لدى البعض الآخر.
الصحفى الشهير ومستشار الملك فاروق كريم ثابت، دوّن مذكراته فى منتصف الخمسينيات وتركها، وعثرت عليها ابنته، نشرتها «دار الشروق»، ظهرت فى معرض القاهرة الدولى للكتاب دورة سنة ٢٠٠٠، بتقديم محمد حسنين هيكل، كرر كريم ثابت فى المذكرات رأيه بأن الحريق كان من الممكن أن يكون فى أضيق نطاق، نطاق مجموعة من الصبية يحاولون إشعال النيران، ويمكن منعهم والسيطرة عليهم، هو هنا يتهم الحكومة التى كانت قائمة وقتها، حكومة الوفد. المعروف أن الملك حمل الحكومة المسؤولية السياسية لذا قام بإعفاء رئيس الحكومة، لم يستعمل القصر هنا كلمة إقالة بل «إعفاء».
السكرتير الخاص للملك فاروق د.حسين حسنى، يقدم رأيًا مقنعا فى شهادته، ملخصه أن الإذاعة المصرية أذاعت بيانا مفصلا بما وقع فى الإسماعيلية وما تعرض له رجال الشرطة من قوات الاحتلال البريطانى، بما أثار مشاعر الغضب لدى عموم المواطنين، كان الغضب مشروعًا ونبيلًا، فى مساء اليوم نفسه، بعد منتصف الليل.
هبطت أربع طائرات ركاب فى مطار القاهرة، طائرات بريطانية، رفض العاملون بالمطار تقديم أى عون لها، وهكذا ظل الركاب فى الطائرات عدة ساعات دون فتح الأبواب وحدثت أزمة، ذهب مدير الأمن إلى المطار وحاول إقناع العاملين أن هؤلاء الركاب لا ذنب لهم فيما أقدم عليه قائد القوات البريطانية بالإسماعيلية.
يضاف إلى هذا الموقف فى المطار أن عددا من الأحزاب كانت أعلنت عن قيام مظاهرات فى اليوم التالى مباشرة (٢٦ يناير) للتعبير عن الغضب الشديد.
برأى د.حسين حسنى أنه كان يجب على الحكومة توقع الانفجار وانتشار دعاة الفوضى والخراب، ومن ثم كان واجبًا اتخاذ إجراءات احترازية، مثل زيادة الحراسة على بعض المنشآت، وكثافة تواجد رجال الأمن، ومنها تكليف القوات المسلحة بحماية العاصمة، منذ اللحظة الأولى للحريق وليس بعد عدة ساعات، يذكر د.حسنى أن مجرد ظهور رجال الجيش فى الشارع جعل اللصوص ومشعلى الحريق يفرون بسرعة، لكن الحكومة «عز عليها» أن تطلب ذلك إلا بعد فوات الأوان.
الحديث ممتد.