توقيت القاهرة المحلي 20:45:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بداية أُهدرت

  مصر اليوم -

بداية أُهدرت

بقلم - حلمي النمنم

 

يرى كثير من المحللين والدارسين أن شهادة وفاة النظام الملكى فى مصر، تحديدا حكم الملك فاروق الأول، كتبت يوم ٢٦ يناير ٥٢، يوم حريق القاهرة، أما ما جرى من وقائع بعد الحريق وحتى ٢٦ يوليو ٥٢، يوم مغادرة الملك مصر، بعد تنازله عن العرش فى اليوم نفسه، كان فسحة وقت لإعلان خبر النهاية، مع الابتهاج بذلك الحدث.

يستند أنصار هذا التصور إلى عدة مؤشرات من بينها ما ذكره أكثر من عضو بمجلس قيادة الثورة فى كتاباتهم أو أحاديث صحفية؛ أنهم من شدة الغضب لما حدث فكروا جديًا فى التحرك للسيطرة على الحكم بعد الحريق مباشرةً، وهذا القول قد يكون فيه من الخيال أو الحماس أكثر مما فيه من الحقيقة، ذلك أن «الضباط الأحرار»، حتى يناير ٥٢، كانوا بلا قيادة كبرى، التفاهم مع اللواء محمد نجيب لم يكن قد حدث، وما كانت لهم أرضية واسعة بعد بين زملائهم، فضلا عن الحياة العامة، كان رصيدهم لا يزال محدودًا، ولم يكونوا قد اختبروا قدراتهم بعد ولا احتكوا بخشونة مع الرغبات الملكية، كما حدث فيما بعد عبر انتخابات نادى الضباط، صحيح أن الجهات الأمنية شعرت بهم، لكنهم كانوا بنظر الكثيرين، حتى على مستوى القيادات فى الجيش، مجموعة من الشباب المتحمسين، يسهل التعامل معهم وخطرهم محدود.

لكن نزول قوات الجيش إلى الشارع للسيطرة على عمليات النهب والسرقة وعلى مشعلى النيران، كان بروفة لنزول آخر وأكبر- عملية إنقاذ- تغرى به عوامل التخبط السياسى عند قمة الدولة، وهذا ما جرى فعليًا يوم ٢٣ يوليو.

حريق القاهرة، كان يمكن أن يكون بداية جديدة، يستعيد بها الملك بريقه ويرمم نظامه، الذى كثرت به الشروخ، كانت الضغوط من الخارج تزداد، رذاذ الحرب الباردة اقترب كثيرا منا، حرب فلسطين وإقامة دولة إسرائيل جعلتا مصر فى بؤرة التضاغط الدولى، الصمود فى وجه تلك الضغوط يحتاج جبهة داخلية قوية ومتماسكة، ليست مشققة ومشروخة، وكان هناك كثيرون يدركون ذلك، الأميرة فائزة شقيقة الملك كانت ومجموعة من المحيطين بها على يقين أن الأمور تمضى نحو نهاية قريبة، وحاولت أن تفاتح شقيقها فى ذلك، كريم ثابت مستشار الملك الصحفى والمقرب من الدائرة البريطانية قفز من السفينة مبتعدا، الملك نفسه كان مدركًا لتلك الشروخ، لكن الواضح أمامنا أنه اعتبر تلك الشروخ مسألة قدرية، لذا كثر حديثه بين المقربين ومجالسه الخاصة عن أن النظم الملكية فى العالم إلى زوال وأن مصر، يوما ما، قريبًا أو بعيدا تتجه نحو الجمهورية وأن ما يمكنه هو- شخصيا- القيام به هو تأخير ذلك اليوم (راجع: مذكرات كريم ثابت).

الحريق جعل معظم القوى الوطنية والسياسية تدرك أن الخطر يتعلق بالبلد ذاته وليس بنظام الحكم ولا بالملك شخصيًا، المحن الكبرى تدفع المصريين إلى التكاتف والالتحام، احتراق العاصمة أمر جلل يتجاوز شخص الملك وحاشيته والحكومة وأنصارها وخصومها كذلك، بإزاء ذلك كانت تلك القوى، رغم ما بينها من خلافات سياسية، على استعداد للتكاتف حتى تعبر البلاد وتتجاوز الأزمة، خاصة حزب الوفد الذى رمى بالأنانية السياسية يوم ٤ فبراير ٤٢، دعنا الآن من الاتهامات الأخرى.

اليوم- يناير ٥٢- كان الوفد على استعداد للانحناء أمام العاصفة، لذا وجدنا النحاس باشا- وحزب الوفد- يتقبل إقالة الحكومة بلا غضب ولا ضجيج سياسى وصحفى، رغم أنه كان هناك من يرى داخل القصر الملكى ضرورة الإبقاء على حكومة الوفد وتتعامل هى مع نتائج الحريق وتواجه الرأى العام، باختصار «تشيل الشيلة» بعيدًا عن القصر والملك، فضلًا عن ذلك فإن الوفد يمكنه معاودة المفاوضات مع بريطانيا، كان يمكن للملك أن يطلب من رئيس الحكومة إجراء تعديلات وزارية وتقديم وجوه جديدة، بل وإشراك بعض الأحزاب الأخرى بها، كان يمكن كذلك تكليف لجنة موسعة، محايدة، بالتحقيق والبحث سياسيًا فى الظروف التى أدت إلى كل ما جرى.

تفهم الوفد قرار الملك، تقبلوا الإقالة بلا غضاضة، اتجه الملك إلى تكليف نجيب الهلالى بتشكيل الحكومة، لكن الأخير اعتذر لأسباب صحية واقترح اسم على ماهر. كل منهما الهلالى وماهر كان يكره الوفد.

تعامل برلمان الأغلبية (الوفدية)، مع حكومة على ماهر ولم يضع العراقيل أمامها، على ماهر من جانبه داعب مشاعر الأغلبية البرلمانية بأن أعلن أنه سيواصل فى الحكومة سياسة «سلفه العظيم»، مشيرًا بذلك إلى زعيم الوفد، مصطفى النحاس (باشا).

نجحت الحكومة فى فرض الأمن والنظام فى الشارع، كما أمكن لها أن توفر المواد التموينية الضرورية للمواطنين وأن تحد من مشكلة الغلاء، ثم اتجهت الحكومة إلى العمل سريعا فى إزالة آثار الحريق وإعادة تعمير ما احترق، رصدت الحكومة الجديدة مبلغ خمسة ملايين جنيه لهذا الغرض ودفعت بعض التعويضات لأصحاب المنشآت التى أضيرت من الحريق، كانت الخسائر قدرت بحوالى ١٢ مليون جنيه، ودبت حالة من التفاؤل، خاصة أن الحكومة الجديدة خففت حدة التصادم فى منطقة القناة مع القوات البريطانية، بل مهادنتهم، حيث تم سحب الفدائيين من المنطقة، بل تم القبض على بعضهم وعاد التعاون مع المعسكرات البريطانية وهذا ما كانت تتمناه السفارة البريطانية، وبدا أن الجو قد يكون مهيأ لعودة التفاوض مجددًا حول القضية الوطنية مع بريطانيا. كان معيار نجاح أى حكومة هو فى مدى ما تحققه بالتفاوض فى القضية الوطنية.

كان على ماهر منجزا فى الجوانب التنفيذية وكان منحازا لمسألة العدل الاجتماعى، لكنه كان رجل الألاعيب السياسية ولم يكن يعبأ كثيرًا بالمسألة الديمقراطية، وراح يمارس تلك الألاعيب فسقطت الحكومة ولم تكن أكملت خمسة أسابيع.

استصدر على ماهر مرسوما ملكيًا بتعطيل جلسات البرلمان لمدة شهر، ثم وضع المرسوم فى الدرج، لم يتم تنفيذه، ولما ناقشه بعض الوزراء فى ذلك أفاد بأنه كان يلوح بالمرسوم للنواب الذين عارضوا رصد مبلغ الخمسة ملايين، الخاصة بالحريق، أما وقد وافقوا، فلم يعد ثمة حاجة لتفعيل المرسوم، احتج الوزيران زكى عبد المتعال ومرتضى المراغى، المراسيم تصدر للتنفيذ، احترام القرارات فى تنفيذها، فارق كبير بين التلويح باستصدار مرسوم أو قرار وبين الصدور الفعلى، اعتبر كل منهما تصرف رئيس الحكومة فيه مساس بكرامة الحكومة وكرامة مجلس النواب، ما لم يقولاه أن به مساسا بهيبة ومعنى المرسوم الملكى نفسه، فتقدم كل منهما باستقالته ولم يخفيا سبب الاستقالة، ولما كانت الحكومة من المستقلين وليست حزبية، كان من الصعب شغل الموقعين، وهكذا تقدم هو باستقالة الحكومة كلها إلى الملك الذى قبلها فى نفس اليوم، دون مراجعته فى شأنها ودون تمهل فى التعامل معها. وكلف نجيب الهلالى بتشكيل حكومة جديدة وتشكلت يوم أول مارس.

أن تعمر حكومة وتطول مدتها، يمكن أن يكون سببا للتغيير، من باب المطالبة بتجديد الدماء وتجنب الشعور بالملل السياسى، حتى لو كانت حكومة ناجحة، لكن أن تأتى حكومة، فى ظل أزمة ضخمة وتذهب- عمليا تسقط- بعد حوالى شهر، فهذا يعنى الاقترب الشديد من الفوضى، قل الانهيار المتسارع، ويندهش المرء كيف فات ذلك على رجال الدولة الأذكياء وقتها، بل كيف كان فاروق مغيبا إلى هذه الدرجة، كانت المخاطر تحيط به شخصيا وبنظامه من كل جانب، وتصرف باستخفاف شديد، استخفاف يقترب من العدمية السياسية أو الثقة البالغة بالذات.

فشل حكومة على ماهر فى الاستمرار وانهيارها من الداخل، كشف الهشاشة الشديدة، المعنى الأهم، أن أى حكومة تأتى وبلا أغلبية معقولة، سوف تلقى نفس المصير، تكون مضطرة إلى الاستقالة، وأنها لن تكمل شهرًا أو شهرين، هذا ما وقع حرفيًا مع حكومة الهلالى.

كان الأفضل العودة إلى حزب الأغلبية، خاصة فى ظل تلك الظروف أو الدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، ويتم اختيار الحكومة بناءً على نتيجة الانتخابات، أيا كانت. لكن بعض المحيطين جدا بالملك قرروا أن الاستعانة أو العودة إلى الوفد، بعد شهر من الإقالة، تعنى اعترافا ضمنيا بالخطأ حين تمت الإقالة، كذلك خطأً تكليف على ماهر. أما اللجوء إلى انتخابات نيابية مبكرة فقد كان محفوفا بالنتيجة نفسها، أى احتمال فوز الوفد بالأغلبية. أرضى ذلك التحليل وتلك المخاوف الملك، وهكذا سيطرت عوامل «النفسنة» والحساسيات الصغيرة والحسابات الضيقة جدا على اتخاذ القرار، فكانت النتيجة الفشل وتحولت الشروخ إلى انهيار وسقوط تام، حكومة الهلالى أودت بالنظام كله وسهلت تماما الطريق أمام «الضباط الأحرار»، وهنا التفاصيل كثيرة ومريعة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بداية أُهدرت بداية أُهدرت



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon