احتلت بريطانيا مصر سنة ١٨٨٢، ولم يعترفوا يومًا أنهم قصدوا ولا خططوا لاحتلال بلادنا واستعمارها، زعموا أنهم جاءوا لحفظ الأمن فى البلاد وحماية عرش الخديو محمد توفيق، الذى لجأ إليهم وطلب حمايتهم له من الثائرين عليه، كان توفيق مقتنعا أو هكذا تم إقناعه أن عرابى ورفاقه سوف يقومون بقتله ويعلنون قيام الجمهورية، ولم يثبت إلى اليوم أنه كانت هناك نية ولا رغبة فى قتله، لكن جرى- فعلا- التفكير أو التباحث فى إمكانية إعلان الجمهورية، مجرد فكرة وتم استبعادها، لكن هاجس التعرض للقتل سيطر تاريخيًا على عدد من حكام الأسرة العلوية. محمد على تعرض فعلًا للعديد من المحاولات، فى سنواته الأولى خاصةً، ذكر الجبرتى عددًا منها، إبراهيم باشا نفسه سيطر عليه طويلا هاجس أن السلطات العثمانية تريد التخلص منه بالسم، حتى بعد أن صار واليا خلفا لوالده.
واغتيل فعلًا فى قصره الوالى عباس (الأول)، وتنسب العملية فى العديد من الكتابات إلى عمته زبيدة ابنة محمد على، بمقولة إنها كانت متسلطة أو «مسترجلة» وأنه أضعف سطوتها وامتدت يده إلى بعض ممتلكاتها، وإن كان هناك من استبعد ذلك التصور نهائيا، بما يعنى براءة الأميرة وينسبه إلى الفرنسيين الذين قلص عباس نفوذهم وتواجدهم فى مصر كثيرًا، بل منح بريطانيا فرصة إنشاء خط السكك الحديدية، مفضلا ذلك المشروع على المشروع الفرنسى فى ربط البحرين المتوسط والأحمر معًا بممر مائى. كان الصراع البريطانى/ الفرنسى على أشده حول من يسيطر على مصر، وبالأحرى يستعمرها.
حين غزت القوات البريطانية مصر، كان الحديث عن أنهم جاءوا بطلب رسمى من الخديو (الشرعى) وأنهم فى مهمة مؤقتة، إلى أن يزول التهديد ويستتب الأمن فى المحروسة.
وفشلت الثورة العرابية، سلم عرابى نفسه للقوات الإنجليزية هو ومعظم رفاقه وجرت محاكمتهم على النحو المعروف، سجن البعض ونفى القادة والزعماء، وكان الشيخ محمد عبده أحد الذين تم نفيهم، لم يعد هناك تهديد لحياة الخديو ولا تهديد للأمن العام، تحقق الاستقرار ومن ثم زال السبب الذى أتى بالقوات البريطانية إلى مصر، وهكذا بدأت الأصوات ترتفع فى القاهرة وإسطنبول وعدد من العواصم الأوروبية، بل وفى لندن ذاتها، بضرورة الجلاء البريطانى عن مصر، وسوف يشتد هذا الحديث ويزداد إلحاحا طوال تلك الفترة، وفى بعض اللحظات بدا أنه قريب المنال وقيد التحقق.
فى ذلك الظرف تأتى الوثيقة التى بين أيدينا بخط الشيخ محمد عبده التى نشرتها «دار الشروق» بدراسة وتحقيق د.عماد أبوغازى ود.وليد غالى. فى نهاية الوثيقة أنها حررت فى «آخر شهر سبتمبر سنة ١٨٨٣».
هذا التوقيت، كانت رائحة هزيمة عرابى ومن معه فى الأجواء، لكن عرابى والثورة شىء ومطلب الاستقلال شىء، باختصار ذهب عرابى ومن معه إلى المصير المعروف وهناك من حزن عليه «الولس كسر عرابى»، أى راح ضحية الخيانة، وهناك من هاجمه؛ افتقد لبعد النظر، خدعه دليسبس بسهولة، لم يكن قائدا ناجحا وغير ذلك، لكن الوطن واستقلاله أكبر.
باختصار المقولة السائدة بين بعض الكتاب والباحثين عن أن الروح المصرية كسرت أو ماتت بعد الهزيمة مباشرةً وظلت كذلك، طوال عقد كامل، حتى صعود عباس حلمى (الثانى)، إثر الوفاة المفاجئة لوالده محمد توفيق، تحتاج إلى مراجعة شاملة، ها هو الشيخ الذى حوكم وسجن ثم نفى يواصل الدفاع والمطالبة باستقلال مصر.
مصر لم تمت يوما، تضعف ممكن، تهزم، حدث فعلا أكثر من مرة، لكنها أبدًا لم تمت، إنها حقيقة وجودية وكونية.
الذى حدث أن المطالب الوطنية لم ترفع بطريقة ونهج عرابى، إذ عاد الشيخ محمد عبده إلى نهجه القديم وهو النهج الهادئ لا الصاخب، الإصلاحى لا الثورى، وبدلا من البكاء على اللبن المسكوب، التعديد على عرابى أو هجائه ولعنه هو ومن سانده، كان الانطلاق إلى المستقبل ومحاولة تجاوز المحنة والتمسك بالمطالب الوطنية للمصريين عموما.
لم يكن محمد عبده وحده فى ذلك، فى داخل مصر تشكلت جماعات بهدف مقاومة الاحتلال والحصول على الاستقلال، بمختلف الوسائل والطرق، سلميا، لنقل إصلاحيين، عبر الجمعيات والمؤسسات الأهلية.. الجمعية الخيرية الإسلامية نموذجًا، وكانت هناك محاولات على الطريقة الثورية الصاخبة جمعية «الانتقام»، إحدى أبرز تلك المحاولات، حيث اعتمدت العنف والانتقام من المحتلين ومن الذين عاونوهم، وقد وصلت سلطات الاحتلال إليها وقبض على عدد من أعضائها وحوكموا، أحد هؤلاء كان الشاب سعد زغلول. الزعيم فيما بعد.
ولا يجب أن يفوتنا أن عرابى كان له أنصار داخل الأسرة العلوية ذاتها، هؤلاء سواء من نعرف ومن لا نعرف عنهم شيئا لم يمسهم أحد ولم يختفوا، ظلوا موجودين. علينا أن نراجع وفاة الخديو توفيق شابًا، لم يكن أتم الأربعين من عمره، وهناك ملابسات عديدة حول تلك الوفاة، جعلت طبيبه الخاص وكان مصريا رفض التوقيع على تقرير الوفاة، الذى أعده الطبيبان الأجنبيان وبمراجعة بعض التفاصيل- لا مجال لذكرها هنا- نشعر أننا بإزاء واحدة من مؤامرات القصور، هل كان الموقف من القضايا الوطنية وإدارته للأزمة مع العرابيين حاضرًا؟.
يمكن أن نستنتج ذلك، خاصة أن نجله عباس حلمى حاول السير عكس الاتجاه الذى اتخذه هو، يضاف إلى ذلك أن موقف توفيق من عرابى والإنجليز، ظل محظورًا تتجنبه الأسرة، رأينا ذلك أثناء ثورة ١٩، حيث تجنب السلطان أحمد فؤاد معاداة الثورة، ساندها سرًا، لا يعقل أن رئيس الوزراء رشدى باشا وكان كذلك وزيرًا للداخلية يعطى توجيهات للعمد والمشايخ فى أنحاء مصر بتوقيع التوكيل لسعد زغلول، من وراء ظهر السلطان ولا ضد رغبته.
الأمير عمر طوسون كان من البداية داعمًا، حتى إن هناك من يرجع إليه فكرة تكوين وفد يذهب إلى المعتمد البريطانى يطلب إليه السماح بالمشاركة فى مؤتمر الصلح وعرض المطلب المصرى فى الاستقلال.
كان أحمد فؤاد أخا- غير شقيق- للخديو توفيق، فيما بعد وجدنا الملك فاروق يرفض تماما إلحاح وضغوط عدد من قادة الحرس الملكى فى أن يفتحوا النار على من اقتربوا من بوابات القصر صبيحة يوم ٢٦ يوليو ١٩٥٢ وقال: لن أكرر حكاية توفيق وعرابى.
كانت مهمة ومشروعية الإصلاحيين أقل صعوبة، لم يكن بوسع سلطات الاحتلال أن تمارس معهم ما فعلته بجمعية الانتقام، لكن على مستوى الشارع كان هناك من يعرقلهم، بل يتهمهم، خاصة المجموعات الراديكالية، شديدى الحماس، إلى ضرورة أن نقوم فورًا على الإنجليز «قومة رجل واحد»، بالإضافة إلى التيارات المحافظة فى المجتمع الذين وقفوا ضد كل خطوة أو مشروع إصلاحى، رغم ذلك، نجح الإصلاحيون فى بلورة الأهداف الوطنية، وبلا تجاوز فإن الشيخ محمد عبده، على رأس هؤلاء جميعًا، وثيقته سنة ١٨٨٣، للاستقلال، هى البداية.
مقدمة الوثيقة وخاتمتها تستحقان التوقف أمامهما، بهما قدر من اللعب الفنى والأدبى، سنة ١٨٨٣، كان الشيخ مدانا ومن زعماء العرابيين، رقابهم جميعًا كانت أقرب إلى المقصلة وتم تخفيف العقوبات، فإذا وصلت تلك الوثيقة بأى طريقة إلى الإنجليز أو الخديو فهذا يعنى أن يتم تصفيته، لذا نجد مقدمة الوثيقة هكذا «لائحة كتبها بعض رجال الإنجليز، وبعث بها إلى بعض المصريين ليوقع عليها ويحمل إخوانه على التوقيع كذلك بعد إبداء ملحوظاتهم فيها، إن كان لهم ملحوظات»، أما الخاتمة فجاءت كالتالى «حرره سابين فى البحر(حسب دعواه)».
قد نتساءل من هم رجال الإنجليز أولئك ومن الذين أرسلت إليهم للتوقيع عليها، وكذلك اسم من حررها (سابين)؟.
الواضح أننا أمام وثيقة يضع صاحبها فى الحسبان أن تقع فى يد السلطات، لذا نسبها إلى رجال إنجليز وأنها مشروع للتداول والنقاش حوله ولم يصبح جاهزا للتنفيذ، هو كذلك مشروع مطروح لينال توقيعات المصريين، باختصار خطوة ديمقراطية، ورغم أنها بخط يده لم يذكر فيها اسمه.
مثل هذه الحيل الأدبية يعرفها جيدا من درس الأدب العربى، قبل عصر الأستاذ الإمام وبعده. كليلة ودمنة نموذجا، وفى الآداب الحديثة اتسعت عمليات التخفى والمداراة أو الإسقاط فى الكتابة، رواية د.هيكل «زينب» صدرت أول مرة بدون اسمه، حملت توقيع «فلاح مصرى»، الحذر هنا كان لأسباب اجتماعية، قبله عبد الرحمن الكواكبى أصدر كتابا بدون اسمه، والخوف هنا كان سياسيا وهكذا.
بهذا المعنى نتفهم مقدمة وخاتمة لائحة الشيخ محمد عبده (سبتمبر ١٨٨٣).