توقيت القاهرة المحلي 16:35:03 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الاستقلال الوطنى أم رئاسة الحكومة؟

  مصر اليوم -

الاستقلال الوطنى أم رئاسة الحكومة

بقلم - حلمي النمنم

شهدت مصر سنة ١٩٢٦ عدة أزمات خانقة، وطنيًّا وسياسيًّا وكذا ثقافيًّا وفكريًّا، نحن لا نتوقف إلا عند أزمة كتاب د. طه حسين «فى الشعر الجاهلى»، والتى تفجرت فى مارس من السنة نفسها، وحسمتها النيابة العمومية، ورغم أهمية وخطورة تلك الأزمة بالنسبة لحرية التفكير والبحث العلمى والأكاديمى، فإنها لم تكن الأخطر.

لعل أبرزها تلك التى ترتبت على انتخابات مجلس النواب فى شهر مايو من تلك السنة. جرَت الانتخابات فى جو من التفاهم بين أقطاب السياسة والوطنية، سعد زغلول وعدلى يكن وقبلهما الملك فؤاد الأول. أفضت الانتخابات إلى فوز الوفد- كما كان متوقعًا- بالأغلبية، حصل على ١٤٤ مقعدًا، ونال «الأحرار الدستوريين» ٢٨ مقعدًا، وحزب الاتحاد الذى تشكل برعاية الديوان الملكى فاز بسبعة مقاعد.

كان عدد مقاعد المجلس (٢٠١)، وطبقًا لتلك النتيجة، كان ينبغى تكليف سعد بتشكيل الحكومة، كان التفاهم قبل الانتخابات أن سعد زغلول لن يشكل الحكومة، لم يكن هو راغبًا فى تكرار تجربة سنة ٢٤ حين شكّل الحكومة ونالت منه التجربة كثيرًا، غير أن نتيجة الانتخابات أغْرَت السعديين، فضغطوا على الزعيم لتشكيل الحكومة، ونعموا هم بفوزهم، استجاب الزعيم، وعدَل عن تفاهماته السابقة، وتقبّل الملك فؤاد رغبة سعد، ولم يجد عدلى يكن فيه غضاضة. نتيجة الانتخابات تقود إلى ذلك.

المشكلة الكبرى كانت فى دار المندوب السامى البريطانى- مقر الاحتلال- حيث كانت هناك كراهية عميقة، وبالأحرى خوف من سعد زغلول وزعامته، وكانت هناك رغبة ما فى الانتقام منه بسبب دوره فى الثورة وانتزاع قدر من الاستقلال عنوة من بريطانيا العظمى، إضافة إلى ذلك أن دار المندوب السامى حمّلت سعد شخصيًّا مسؤولية ما حصل سنة ٢٤.

فى تلك السنة وقع حادث اغتيال السير لى استاك فى القاهرة، وكانت هناك ثلاث عمليات اغتيال أخرى لمسؤولين بريطانيين فى مصر خلال السنة نفسها، بينها اغتيال موظف إنجليزى بسيط فى وزارة الزراعة، كان فى السيارة مع طفليه، فقُتل أحدهما معه، حمّلت بريطانيا سعد والوفد مسؤولية تلك العمليات، بل ذهبت إلى أنه ربما يكون سعد قد أعطى الأمر بالقيام بها، ولم يشفع له أنه هو نفسه تعرض لمحاولة اغتيال بمسدس طالب فى كلية الطب بزعم أنه يمالئ الاحتلال، ويساوم على استقلال مصر.

زاد الطين بلّة، فى نظر الإنجليز، أن أحكام القضاء فى قضية الاغتيالات صدرت فى مايو ١٩٢٦ بتبرئة مَن قُدموا للمحاكمة، خاصةً أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى، (لنتذكر أن جماعة حسن البنا قامت باغتيالهما فيما بعد).

ترتب على حكم البراءة أن اتهمت دار المندوب السامى القضاء المصرى بأنه غير نزيه ومنحاز للقتلة وأن سعد يدعمهم، بتعبيرنا الآن زعموا أنه قضاء مُسيَّس، هنا أصرت بريطانيا على رفض تكليف سعد بتشكيل الحكومة، حتى لو كانت لديه الأغلبية، أقرت لندن المندوب السامى على ذلك، ونصحته بأن يطلب من الجيش البريطانى وصول سفينة حربية مسلحة تمامًا لترسو فى ميناء الإسكندرية تحسبًا لأى رد فعل من الجماهير المصرية. دعنا- مؤقتًا- نُنحِّ الديمقراطية البريطانية العتيدة- جانبًا- هى فزاعة فى التعامل مع المستعمرات والشعوب المحتلة، تُرفع فى لحظة وتُداس بالأقدام لحظة، أو على رأى المبدع عبدالفتاح القصرى «تنزل المرة دى..». ديمقراطيًّا وشعبيًّا سعد زغلول هو الأحق، ولكن أمام مصلحة بريطانيا يُلغى كل ذلك.

تحرك مدمرة بريطانيا أمام سواحل الإسكندرية يعنى الكثير لسعد تحديدًا، هو تكرار وتذكير بما جرى أيام عرابى، وكان هو أحد شباب العرابيين، المدمرة لن تقدم هدايا ولا ورودًا للمواطنين، لا تتحرك الأساطيل والمدمرات أيًّا كان اسمها والأعلام التى ترفعها لبناء ديمقراطية ولا حماية لحق إنسانى، مدمرة يعنى التدمير والقتل والخراب، أحيانًا يقع التدمير لذاته، أكبر عدد من القتلى، وأقصى حد من الخراب والتدمير لتطويع الأرواح والنفوس لكل ما يُراد لها وبها. فعلوها من قبل، فدمروا الإسكندرية ذاتها، ومن هناك اجتاحوا البلاد كلها، بداية الاحتلال وضرب الثورة العرابية كانت وصول سفن الجنرال سيمور إلى الإسكندرية احتجاجًا على تقوية الدفاعات المصرية لطوابى المدينة.

أى وطنى أو سياسى مبتدئ يدرك ذلك، سعد أدركه واستوعبه جيدًا. كانت الرسالة واضحة إليه وإلى عدلى يكن وقبلهما الملك فؤاد الأول، ابن إسماعيل، وحفيد إبراهيم باشا.

الملك فؤاد أدركه تمامًا، هو كان يكره السياسة البريطانية، لقد عايش ما قاموا به تجاه والده الخديو إسماعيل وإهانتهم لابن أخيه الخديو عباس حلمى، وكان هو ياوره، رافق أحمد فؤاد والده فى المنفى بإيطاليا وتربى ودرس هناك. هو كذلك شجع ثورة ١٩ سرًّا حين كان سلطانًا والإنجليز يعرفون كل ذلك عنه، باختصار استقلال مصر كان هدفًا رئيسًا لديه. لكن فؤاد كان فى موقف صعب، فإذا نحى سعد زغلول جانبًا فسوف يُتهم بكراهية سعد، وقد تهب جماهير الوفد لتفرض زعيمها. كان الملك متهمًا بالأوتوقراطية، كان كذلك بالفعل، ولم يكن ينكر أنصاره ذلك، لكنه لم يكن يريد اصطدامًا بالشارع، التفاصيل كاملة فى كتاب «إقبال شاه أحمد» عن الملك فؤاد، صدرت ترجمته فى القاهرة سنة ١٩٣٩.

كان ما تحقق لمصر من استقلال بفعل ثورة ١٩ على المحك، وربما تقرر بريطانيا إلغاء كل ما تنازلت عنه والعودة إلى ما كنا عليه، ويجب القول إن بعض الساسة البريطانيين من المحافظين تحديدًا كانوا يشعرون بإهانة بالغة مما قام به المصريون (الفلاحون/ الشرقيون) تجاه الإمبراطورية التى كانت منتشية بانتصارها فى الحرب العالمية الأولى.

كانت المعادلة كالتالى استقلال مصر فى كفة ومنصب رفيع يتولاه سعد باشا ولن يضيف إليه شيئًا كبيرًا فى كفة!!.

قابل سعد المندوب السامى البريطانى، سمع منه وقال له، صارح المندوب زعيم الأمة: «مازلتَ تحارب بريطانيا، كما فعلتَ من قبل». كان المندوب يتحدث بصلابة وعجرفة، يمكننا القول إنه كان حادًّا وغشومًا، لم تكن الحدة مقصودًا بها سعد فقط، بل كل المصريين، كان الضيق واضحًا فى كلماته بما يفضح المدى الذى يمكن أن تصل إليه الأمور.

هنا لم تعد الأمور مجرد خلاف سياسى يُحل بالمناورة أو التفاوض، وصلت المسألة إلى ما يمس استقلال الوطن وسيادة الدولة.

انحاز سعد إلى الاستقلال وصون الوطنية المصرية، فقابل الملك وأبدى رغبته فى الابتعاد عن تشكيل الحكومة لأسباب صحية، وأن لديه رغبة عبر عنها من قبل فى اعتزال المناصب الحكومية، وأنه يدعم عدلى يكن رئيسًا للوزراء، وهكذا أنقذ البلاد وامْتَنَّ له الملك كثيرًا. وانتُخب سعد رئيسًا لمجلس النواب، والتزم بتعهده أن يساند الحكومة.

من جانبه تصرف عدلى يكن بنبل حقيقى، اتفق مع سعد على أسماء الوزراء، وأنصت جيدًا لملاحظات سعد زغلول، وعبرت الأزمة. أطلق سعد على تلك الحكومة «حكومة الاندماج»، ولم يعتبرها ائتلافية.

لم يفرح عدلى بالموقع الذى سبق له أن تولاه ولا تعامل بعقلية القناص، اقتنص موقعًا من منافس وغريم، كانوا وطنيين صدقًا وكبارًا بحق، ليسوا مبتدئين ولا مجربين جددًا وليسوا انتهازيين ولا نهازين، وطوال الوقت قضيتهم حماية الوطن واستقلاله بأن يُجنبوه «أصحاب العيون الزرقاء»، وفق تعبير عمر بن الخطاب، رضى الله عنه.

جرت معظم فصول هذه الأزمة خلف الأبواب، سواء باب بيت الأمة أو باب دار المندوبية البريطانية، بإلإضافة طبعًا إلى باب قصر عابدين، لكن بعض الأصداء وصلت إلى الصحف المصرية، ناهيك عن عدد من الصحف البريطانية، وكانت معظمها تدافع عن «حقوق بريطانيا فى مصر»، لا تسأل عما يطلق عليه الحياد والموضوعية المهنية، واحدة منها فقط دافعت عن سعد زغلول وعن حق المصريين فى الاستقلال والحكم الديمقراطى.

وقتها، غضب بعض أنصار سعد، واعتبروا أنه حرمهم مما كانوا يتوقعون، خاصة أن اقتراحًا ظهر وقتها داخل الوفد وخارجه بألّا يشكل سعد زغلول نفسه الحكومة، بل يعهد بها إلى أحد قيادات الوفد، تردد لحظتها عدد من الأسماء، كان من بينهم مصطفى النحاس، لكن سعد أغلق هذا الباب نهائيًّا قطعًا للطريق أمام احتمالات عدوانية الاحتلال. والتف حوله المخلصون من أنصاره، وهم كثر، هو من جانبه اعتبر أولئك الذين أثاروا اللغط حول المناصب الحكومية غير مخلصين للوفد وقيمه، وإلى يومنا هذا نجد بعض الانتقاد لموقف سعد فى عدد من الدراسات والكتابات التاريخية لأنه انصاع لرغبة الإنجليز، ولم يحشد الأغلبية ويوظف زعامته للثورة مجددًا ضدهم، وكأن الثورة والجماهير طوع فرد (زعيم) يحركهم بإشارة من أصبعه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاستقلال الوطنى أم رئاسة الحكومة الاستقلال الوطنى أم رئاسة الحكومة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 10:52 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة
  مصر اليوم - انطلاق الدورة الثانية من مهرجان الشارقة للسيارات القديمة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 10:38 2024 الأحد ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية
  مصر اليوم - واتساب يتيح تحويل الرسائل الصوتية إلى نصوص تشمل العربية

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon