نبهنا الأديب والصحفى الرائد إبراهيم عبدالقادر المازنى فى كتابه الصادر سنة ١٩٤٣ «قصة حياة» إلى خطأ التصور الشائع أن «الشباب أشد إقبالًا على الحياة وطلبًا لها ورغبة فيها وأن الكهل أقل تشبثًا بالحياة».
عن نفسه قال المازنى «لم أسأم الحياة ولم أزهد فيها ولا فترت عنها، بل أنا أطلب لها وأقوى رغبة فيها مما كنت فى أى عهد مضى»، ويضيف أيضًا «أحسب أن الرغبة فى الحياة تقوى مع ارتفاع السن».
حين كتب المازنى ذلك فوجئ القراء كثيرًا إذ خالف ما استقر عليه وعيهم وثقافتهم، اختلف معه كثيرون، حتى إن بعض الكهول من أصدقائه ومحبيه اعتبروه يشهر بكبار السن ويطعن فى زهدهم وفى «التعفف» عن الكثير من مباهج الحياة ومغريات الدنيا، لكنه دافع عن رأيه بشرح وافً وتفصيل كافٍ، قدم تحليلًا ذكيًا وإنسانيًّا لتعامل الشاب مع الحياة وتعامل الكهل كذلك، لم يخجل أن يضرب بنفسه المثل فى كثير مما يقوله، الشاب تدفعه الحياة وتقوده أما الشيخ فهو الذى يحركها ويقودها.
الحق أن الأديب الفذ كان نموذجًا فى الشجاعة الأدبية مع الآخرين والأهم شجاعته أمام نفسه.
كان المازنى حينذاك تجاوز الخمسين، ولد سنة ١٨٨٩ ورحل عن عالمنا فى ١٩٤٩، وفى جيله كانت تلك مرحلة الكهولة، قد يعتبرها البعض الآن سن الشباب وربما البداية.
وقد عشنا مرحلة كان يستحوذ فيها على المواقع المهمة مجموعة من الذين وقفوا على أعتاب الثمانينيات أو جاوزوها، كانوا أشبه بمجموعة مغلقة، على استعداد للإطاحة بمن يحاول الاقتراب من دائرتهم، مما خلق مرارة وحزازية أجيال، فحدث رد الفعل المضاد وكان عنيفًا وقاسيًا، كان، فى حالات كثيرة، ردًا انتقاميًا، لا أتردد فى القول كان بذيئًا ومرضيًا أيضًا.
لكن شهدت حياتنا عطاءات وأداء متميزًا للبعض من الكهول، عبر أجيال مختلفة، حضرت مرة جلسة كاملة لمجمع اللغة العربية، كان الدكتور إبراهيم بيومى مدكور يديرها وكان قد جاوز التسعين، كان نموذجًا للإدارى اليقظ، حاسمًا وحازمًا، يلم بالكبيرة والصغيرة.
تذكرت هذا كله وأنا أقرأ مذكرات د. مجدى يعقوب التى أصدرتها مترجمة إلى العربية، مطلع هذا العام، الدار المصرية اللبنانية. قام بالترجمة أحمد الشافعى.
من يتابع عملية الترجمة والنشر فى بلادنا يدرك حجم الجهد الذى بُذل فى ظهور هذه الطبعة مواكبة للطبعة الإنجليزية، بتقديم كل من الدكتور محمد غنيم والدكتور مصطفى الفقى وكلمات الغلاف الأخير للدكتور محمد أبوالغار، قامتان طبيتان وقامة سياسية وفكرية، وتضم الطبعة «ملزمة» من الصور الفوتوغرافية، لمشاهد مختلفة لصاحب المذكرات، وقياسًا على أسعار الإصدارات الجديدة يمكننا القول إن السعر الذى تباع به متواضع.
استعمل محررا السيرة مصطلح «التقاعد القسرى »، الذى تعرض له د. يعقوب وهو فى سن الخامسة والستين، هكذا قانون وقواعد الهيئة الوطنية للصحة فى بريطانيا، لكن القانون يسمح للهيئة بأن تمدد له فى موقعه، وكانت الحكومة البريطانية، عدد من الوزراء، مع أن يستمر سير مجدى فى عمله، وهو كذلك محبوب وموضع تقدير من قصر باكينجهام، هو أيضًا كان راغبًا فى مواصلة عمله وأبحاثه، لكن كبار الأطباء فى الهيئة كانوا يريدون التخلص منه، المشتاقون لموقعه كثر والراغبون فى إزاحته أيضًا، والهيئة محصنة بعدم التدخل من الحكومة فى شؤونها، أمر مثل استقلال بعض الهيئات والمؤسسات عندنا، وفى بعض الحالات قد يعنى الاستقلال- هو فى الأصل مقصد نبيل- أن تصبح الهيئة أقرب إلى عزب مملوكة لمجموعات من المتحكمين فيها بحكم مواقعهم، وإذا حاول أحد الاعتراض أو التدخل اتهم باختراق الاستقلالية، تأمل تكليف المعيدين بالجامعة وإياك أن تبدى ملاحظة مثل حول تضاعف حظوظ أبناء الاساتذة، حتى لو لم يكونوا بنفس نباهة وتميز كثير من زميلاتهم وزملائهم.
قد يندهش بعضنا أن هناك فى لندن وبين كبار الأطباء والعلماء غيورين وحسادًا، بل حقودين، تجاه ذلك الذى رأوه، كما ذكر أحدهم، يأخذ كل شىء المجد والشهرة والموقع المتميز، فضلًا عن أنه لا توجد مآخذ عليه، ليس محبًّا للمال ولا راغبًا فى جمعه واكتنازه، ليس فى طموحه أن يلعب أو يحصل على موقع سياسى وهكذا فإن علاقاته مع عدد من الوزراء، بل رئيس الوزراء نفسه تونى بلير وقتها، ليس فيها مأخذ عليه، إنه الحسد بالمعنى المباشر، هكذا النفس الإنسانية، المليئة بالتناقص والأنانية.
كان وما زال د. يعقوب يقدر «هيئة الصحة الوطنية»، فى شبابه انتقل من لندن إلى شيكاغو للعمل وللبحث لمدة عام، فى الولايات المتحدة الطب أكثر تقدمًا من الناحية العلمية، وفروا له كل شىء، معمل يجرى فيه أبحاثه، كل متطلباته فى العمل، كافة التجهيزات، عدد وافر من المعاونين والمساعدين، دعنا الآن من العائد المالى الباذخ وكافة المغريات.
هو لا يتعامل مع جراحة القلب باعتباره حرفيًا أو مهنيًا فقط، لكنه يربط ذلك بالبحث العلمى والدراسة المستمرة للوصول إلى حلول جديدة للمشاكل التى تواجه قلب الإنسان، بانتهاء عام شيكاغو قرر العودة ثانية إلى موقعه فى لندن، ليس فقط لأنه وعد بالعودة ولكن لأن العلاج فى شيكاغو يرتبط بالقدرة المالية للمريض، وليس كذلك فى بريطانيا، يقول «..إنها النظام الأمثل فى العالم، نظام الرعاية الصحية الشامل حق إنسانى فإذا لم يتوفر ذلك فلا كرامة، هيئة الصحة الوطنية مفهوم سابق لزمانه كثيرًا»، ويشرح أن المواطن فى بريطانيا إذا تعرض لأزمة صحية هو أو أى من أفراد الأسرة، يتوجه إلى الهيئة، فيجد من يقول له «هيّا هيّا، ولا يقول له أرنى بطاقتك الائتمانية»، إلى هذا الحد وثق بالهيئة، أعطاها جهده وعلمه بلا حدود، وفى لحظة كان عليه أن يغادرها، رغم الإنجاز الباهر، فى مذكراته نقرأ الجملة التالية «فرضوا عليه التقاعد»، كان ذلك سنة ٢٠٠١، هو من مواليد سنة ١٩٣٥.
عملًا بمقولة البعض، الحياة تبدأ بعد الستين، قرر هو أن يبدأ بعد الخامسة والستين، لم يبخل بعلمه ولا بخبراته، ظل موضع احترام وتقدير، بقى مطلوبًا باعتباره جراح القلب الأشهر والأهم فى بريطانيا وربما فى العالم كله، لكنه كان دائمًا يرى أن الطب له وجه إنسانى وعالمى وهكذا اتجه إلى إفريقيا، حيث الأمراض منتشرة، معدلات الفقر عالية ومستوى الخدمات متراجع، ذهب إلى رواندا وإلى إثيوبيا وغيرهما يجرى الجراحات ويتابع المرضى، وما كان لمصر (أم الدنيا) أن تغيب عنه، هى لم تغب يومًا، يكفى أن نذكر مركز القلب فى أسوان، الذى يقدم أفضل رعاية وعلاج لمريض القلب وبالمجان، هذا المشروع الفذ كان فكرته وحلمه، يقوم المركز على تبرعات المواطنين، حين عاد إلى مصر قام بإجراء عدد من الجراحات فى أحد مستشفيات الإسكندرية، وقتها شنت عليه حملة ضارية إذ رأى فيه البعض منافسًا يجب إبعاده، جيلى من المحققين الصحفيين يتذكرون ذلك جيدًا، وتصدى عدد منا لتلك الحملة، واستضافه برنامج «صباح الخير يا مصر» وذكر أنه سوف يجرى عددًا من الجراحات بالمجان، وكانت المفاجأة من الآلاف الذين طلبوا العلاج، ساعتها فكر جديًا فى تأسيس المركز. ما لم يرد فى المذكرات أن ظهوره على شاشة التلفزيون الرسمى وقتها، كان إشارة لمن حاولوا عرقلته بالتوقف والابتعاد.
اختار أسوان تحديدًا لأنه قضى فيها فترة قصيرة من طفولته، كان والده طبيبًا يتنقل بين مستشفيات مصر، وهكذا عاش فترة فى بلبيس وأخرى فى أسوان وغيرهما من مدن مصر، لكن أسوان بموقعها فى الجنوب والتنوع الإنسانى بها، من أجانب ونوبيين وأهالٍ من كل مكان أسرته إنسانيًا وحضاريًا وربما شعوره أن الخدمات الصحية لا يصح أن تكون حكرًا على العاصمة فقط، سواء كانت العاصمة الأولى «القاهرة»، أو الثانية «الإسكندرية». هو فى ذلك يلتقى مع د. محمد غنيم الذى جعل من المنصورة مركزًا عالميًا لعلاج أمراض الكلى.
العام القادم يتم د.مجدى يعقوب عامه التسعين، ومازال- متعه الله بالصحة- يؤدى دوره الإنسانى تجاه مرضى القلب، ورد فى المذكرات «..فى عالم منحاز ضد كبار السن، يمكن القول إنه حقق فى السنوات العشرين لتقاعده القسرى قدر ما حقق فى السنوات الأربعين السابقة..».
وليس هذا كل ما تنطوى عليه تلك المذكرات المهمة