بقلم - نجيب صعب
الحملة متعدّدة الأوجه ضد الطاقات المتجدّدة تذكّر بالحملة ضد الغاز الطبيعي، عندما بدأ استخدامه يتوسّع في ستينات القرن الماضي. فقد وظّفت الشركات المنتجة للفحم الحجري مجموعة من كبار اختصاصيي العلاقات العامة لبثّ أخبار عن مضار الغاز الصحية ومخاطر انفجارات الأنابيب والحرائق. السيناريو نفسه يتكرّر اليوم، من خلال حملات بدأت بالحديث عن ندرة المواد المستخدمة في صناعة الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، مما يجعلها قاصرة عن تلبية الحاجات، وصولاً إلى تعظيم مخاطر النفايات الناجمة عن ملايين اللاقطات الشمسية وتوربينات الرياح عندما ينتهي عمرها الافتراضي.
التحذير من مخاطر صناعة الطاقات المتجدّدة اليوم، كما من الغاز الطبيعي في الماضي، له ما يبرّره. فتسرُّب الغاز يؤثّر على الصحة، كما أن الانفجارات والحرائق الناجمة عن حوادث طارئة قد تؤديان إلى أضرار جسيمة. لكن الممارسة أثبتت عبر السنين أنه يمكن حصر هذه المخاطر، من خلال تدابير السلامة والأمان، وأن فوائد الغاز الطبيعي تتجاوز مخاطره بأضعاف. فهو لا يُصدِر انبعاثات غازية سامة تصيب صحة البشر، مثل الفحم الحجري، وأثره على تغيُّر المناخ يقلّ أضعافاً.
والصحيح أيضاً أن إنتاج الألواح الشمسية وتوربينات الرياح يستدعي استخراج كميات كبيرة من المواد الأولية، وبعضها معادن نادرة. وقد أدّى توسّع استخدامات الطاقة المتجدّدة إلى إقدام عدد من تجار الطبيعة على إنشاء مناجم في دول نامية لا تطبّق شروطاً بيئية صارمة، فتستنزف ثرواتها الطبيعية وتدمّر بيئتها. كما أن الدول والشركات تأخرت في تحضير حلول لمعالجة مخلّفات أجهزة الطاقة المتجدّدة عند انتهاء عمرها الافتراضي. وفي حين يشارك في هذه النقاشات بعض من أهل الاختصاص المهتمّين فعلاً بحماية الموارد الطبيعية والبيئية والصحة البشرية، تستغل شركات العلاقات العامة هذه الوقائع، فتضخّمها وتعرضها على نحو انتقائي. فهي تتحدث عن المخاطر المحتملة فقط، متجاهلة الحلول الممكنة. وهي تستخدم في عملياتها جيوشاً من «الخبراء» و«الصحافيين» مدفوعي الثمن لترويج الأخبار الملفقّة. وحين تنكشف الأضاليل في مسألة معيّنة، تنتقل إلى خندق آخر حيث تفتح جبهة جديدة.
هذا ما حصل بالتحديد في موضوع الطاقات المتجدّدة. فحين تبيّن أن هناك احتياطات ضخمة من المواد الأولية تكفي لعقود طويلة، وأن هناك بدائل عن بعض المعادن الثمينة، مثل استخدام الملح من مياه البحر في بطاريات التخزين، وأنه يمكن وضع قوانين صارمة وفرض تطبيقها لاستخراج المواد الأولية على نحو مستدام، اكتشف أرباب العلاقات العامة باباً آخر هو النفايات. فالواقع أنه بعد عقدين على بدء الانتشار الواسع للألواح الشمسية وتوربينات الرياح لتوليد الكهرباء، أصبح بعضها بحاجة إلى استبدال. فالعمر الافتراضي لهذه الأجهزة يتراوح بين 25 و30 سنة، تخسر بعدها جزءاً كبيراً من فاعليتها وتحتاج إلى تبديل. ولكن بينما يركّز الخبراء على الحلول، وهي في متناول اليد، تستمرّ شركات العلاقات العامة في نهجها الانتقائي، أيضاً باستخدام «خبراء» و«إعلاميين» مدفوعي الثمن. لكن التخويف ساعد هذه المرة في تسريع إيجاد حلول للمخلفات بدلاً من إيقاف مشروعات الطاقة المتجدّدة.
في الأسابيع الماضية، قامت حملة إعلامية ضخمة تصِف الألواح الشمسية بأنها «قنبلة موقوتة» و«كارثة بيئية على الطريق». وقد استندت الحملة إلى أرقام حقيقية، تُظهِر أن في العالم اليوم نحو 3 مليارات لوح شمسي قيد الاستعمال، والعدد سيزداد أضعافاً كلّ سنة. الجيل الأول من هذه الألواح، التي دخلت الخدمة قبل 25 سنة، بدأ بالوصول إلى عمره الافتراضي، وهو يحتاج إلى استبدال ألواح جديدة به. ومن المتوقّع أنه مع حلول سنة 2030 سيكون هناك أربعة ملايين طن من الخردة الناجمة عن تفكيك الألواح القديمة، وهي كمية يمكن التعامل معها. أما كمية الخردة المقدّرة مع حلول 2050 فستتجاوز 200 مليون طن سنوياً، مما يضعها خارج السيطرة ويهدّد بتكوين جبل ضخم من نفايات الأجهزة الشمسية، في غياب مصانع معالجة وتدوير. لكن شركات العلاقات العامة تُهمل المقارنة مع البلاستيك، مثلاً، الذي يُنتج العالم منه حالياً مائة مليون طن سنوياً، يذهب معظمها إلى جبال النفايات ويلوّث التراب والهواء والمحيطات، كما تُهمِل عرض الحلول الناجحة التي بدأ تطبيقها.
انطلقت في السنوات الأخيرة مبادرات خجولة لجمع الألواح الشمسية القديمة وتفكيكها لإعادة استخدام مكوّناتها. ويمكن فهم بطء هذه المبادرات لأن المشكلة جديدة ولم تكن هناك سابقاً كمية كافية من الألواح التي تحتاج إلى استبدال. أما اليوم، مع بدء نهاية العمر الافتراضي للجيل الأول، فالكمية المطلوب التخلّص منها ستزداد كل سنة، وصولاً إلى مئات ملايين الألواح. وقد وجدت شركة فرنسية فرصة استثمارية في هذا، فطوّرت تكنولوجيات تستطيع تدوير الألواح بالكامل، وإعادة استخدام 99 في المائة من مكوّناتها. وهذا لا يقتصر على الهيكل المصنوع من الألومنيوم والغطاء الزجاجي، بل يشمل المعادن الثمينة التي تدخل في صنع الألواح، مثل النحاس والفضة والسيليكون والكادميوم. ولا تقتصر أهمية هذا الإنجاز على منع ظهور جبال نفايات من فضلات أجهزة الطاقة المتجدّدة، بل تتعداها إلى إعادة استخدام المواد الثمينة لإنتاج ألواح جديدة أكثر فاعلية، بدلاً من استخراج مزيد من المعادن.
وفي تدبير يواكب المتغيّرات، فرضت الحكومة الهولندية أخيراً رسماً على كل لوح شمسي قديم يتم استبداله، للمساهمة في تكاليف التدوير، ولا بد أن يعمّ هذا التدبير بلداناً أخرى.
قد تكون الاضطرابات التي تشهدها فرنسا غطّت على حدث افتتاح أول مصنع ضخم في العالم مخصص لاستخراج مكوّنات الألواح الشمسية، وإعادة استخدامها لتصنيع ألواح جديدة. لكن مصنع التدوير الشمسي الذي افتتح رسمياً في مدينة غرينوبل قبل أيام، هو الردّ العملي على شبكات العلاقات العامة المكلَّفة، مع خبرائها المزيفين، مهمة التشكيك بالطاقات المتجدّدة، لقاء عقود بمئات الملايين. فماذا يمكن أن يكون هدفها التالي؟