اعتدنا عند شراء أي جهاز كهربائي أن نجد بطاقة مُلصقة عليه تحدّد كفاءة استهلاك الطاقة. كما صنّفت معظم الدول السيارات والآليات ضمن فئات، وِفق كفاءة الوقود والانبعاثات الكربونية. وتحمِل المنتجات التي نشتريها من السوبرماركت مُلصقات تحتوي معلومات تتعدى تاريخ التصنيع وانتهاء الصلاحية وبلد المنشأ، إلى تفاصيل عن المكوّنات، أكانت موادّ طبيعية أم اصطناعية. ويعكس هذا تطوّراً كبيراً في النظرة إلى إدارة الموارد، كما في تحميل الأفراد مسؤولية شخصية للمساهمة في الحفاظ على صحّة البشر والكوكب.
صحيح أن المعلومات على هذه الملصقات لا تتصف دائماً بالدّقة، وأن بعض المستهلكين لا يكترث لها. لكن دَور الهيئات الرقابية يتعزّز باطّراد، كما هو حاصل في دول عربية عدة، لفرض معايير تؤكد الالتزام بصحة المعلومات. واعتاد المستهلكون على التحقُّق من محتويات المنتجات التي يشترونها، إن لم يكن للحفاظ على البيئة والموارد، فحمايةً لصحتهم في ما يخص الغذاء وتوفيراً على جيوبهم في ما يخص الطاقة.
ولإدراك التطوّر الحاصل في هذا المجال، تجدر الإشارة إلى أنه قبل أقلّ من 25 عاماً كانت معظم شركات السيارات في المنطقة العربية لا تنشر أرقاماً عن استهلاك سياراتها من الوقود، إن كان في الإعلانات أو في البروشورات المطبوعة. ذلك أن القوانين المحلية لم تكن تفرض الإعلان عن مستوى الاستهلاك، ناهيك عن الانبعاثات، وكأنها تشجع على الهدر. أما اليوم، فقد اعتمدت معظم الدول العربية برامج لكفاءة الطاقة، بين أكثرها نجاحاً ما تطبّقه السعودية، من مكوّناتها تحديد معدلات الاستهلاك في الأجهزة الكهربائية والسيارات والمعدّات والآليات.
مع ازدياد الاهتمام بالترابط العضوي بين الماء والطاقة والغذاء، لا يجوز أن تبقى المياه حلقة ضائعة في بطاقات الكفاءة، كما في قائمة المحتويات. ولا يقتصر هذا على المحتوى في المُنتج النهائي، بل يتناول كمية المياه المستخدمة في جميع المراحل، من المزرعة والمصنع إلى طاولة المستهلك وبيته ومكتبه. مفهوم «المياه الافتراضية»، المهم للعالم كله، يكتسب أهمية خاصة في الدول العربية، وهي تعاني شحّاً متزايداً يصل إلى مرحلة الخطر الوجودي، لأن معظمها جافة أساساً، مع تناقص متواصل في موارد المياه العذبة المتجدّدة المتاحة.
حين أصدر المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2008 تقريره السنوي الأول عن وضع البيئة العربية، كان معدّل حصّة الفرد العربي من المياه المتجددة 900 متر مكعب، وهو انخفض في تقريره الأخير إلى ما دون 500 متر مكعب. وللمقارنة، فكل ما دون 1700 متر مكعب يُعد «إجهاداً» مائياً، وما دون 1000 متر مكعب يُعد «ندرة»، أما ما دون 500 متر مكعب فهو «ندرة مطلقة». عدا عن ذلك، فالمعدّل العام يُخفي ما هو أدهى وأخطر، إذ إن 14 دولة عربية تقع ضمن لائحة الدول الـ18 الأفقر مائياً في العالم، والدولة العربية الأكثر فقراً في المياه العذبة المتجددة لا تتجاوز حصّة الفرد السنوية فيها خمسة أمتار مكعبة. وإذا كانت التحلية هي المصدر الأساسي لسدّ العجز، فهل يمكن الاستمرار في تحلية مياه البحر بلا حدود؟
هنا بعض الأرقام لإدراك حجم المياه الافتراضية، من المَصدر إلى المُستهلك، في مُنتجات نستخدمها يومياً: فإنتاج ليتر واحد من حليب الأبقار يحتاج إلى ألف ليتر من المياه، بدءاً من زراعة الأعلاف إلى تربية الأبقار وجمع الحليب وتصنيعه وتوزيعه وحفظه. أما إنتاج كيلوغرام من الأرز فيستهلك 3400 ليتر من المياه، ويستهلك إنتاج كيلوغرام من لحوم الأبقار 15 ألف ليتر، وسروال جينز 11 ألف ليتر. وإذا كان إنتاج بعض هذه المواد ضرورياً لحياة السكان المحليين، فتصديرها إلى خارج دول تعاني شحّاً مائياً يوازي تصدير محتواها المائي الافتراضي. وأذكر أنني حين عرضت قبل سنوات لائحة بمحتوى المياه الافتراضية لعدد من المنتجات على وزير عربي للمياه، طلب مني مرافقته لعرضها على وزير الزراعة، لحثّه على تخفيف ضغط بعض المنتجات الزراعية التجارية المعدّة للتصدير على الموارد المائية الشحيحة. ولا يقتصر الأمر على الزراعة، بل ينطبق أيضاً على ضبط استهلاك المياه في الصناعة والسياحة والخدمات البلدية.
هذا لا يعني أننا أمام حائط مسدود في مواجهة وضع مائيّ ميؤوس منه. فتحلية مياه البحر، ضمن ضوابط بيئية متوازنة، كفيلة بسدّ جزء كبير من العجز. وهذا لا ينطبق فقط على الدول الغنية بالنفط والغاز، لأن الطاقة التي تحتاجها معامل التحلية يمكن الحصول عليها من الشمس، في الدول العربية كافةً. كما يُمكن استخدام الأملاح والمعادن الناجمة عن فضلات عمليات التحلية في صناعات متعدّدة، منها تخزين الطاقة في البطاريات.
وهذا يُساهم في تخفيض تكاليف الطاقة المتجدّدة، التي تواجه عقبة التخزين للاستخدام حين تغيب الشمس أو تخمد الرياح. كما أن برامج الاستمطار، التي تقوم على تحفيز هطول الأمطار ببث مواد كيميائية في السُّحب، قد تفتح كوّة أخرى، خاصة لدعم برامج التشجير في مناطق جافة. وفي حين تقود السعودية والإمارات برامج كبرى في هذين المجالين، بدأت دول أخرى، بينها مصر، بتصدير أملاح محطات التحلية. لكن لهذه التقنيات الاصطناعية محدودياتها وآثارها البيئية، ولا يمكن عدها حلّاً سحرياً متاحاً بِلا حدود.
إدارة الموارد المائية في العالم يطرحها تقرير للأمم المتحدة بعنوان «المياه من أجل الرخاء والسلام»، يُطلَق في مناسبة اليوم العالمي للمياه في 22 مارس (آذار). وهو يؤكد أن معالجة الوضع المائي الحرج تتطلب تعاوناً دولياً يقوم على تعزيز الكفاءة والعدالة. وفي هذا تذكير انه لا يمكن للتكنولوجيا وحدها أن تحلّ كل مشاكل المياه في غياب الكفاءة.
المهمة الأولى تبقى ضبط الاستهلاك والطلب، بدلاً من الاكتفاء بزيادة الإنتاج والعرض، بما ينطوي عليه من هدر للموارد المحدودة وتلويث للبيئة بالفضلات. وقد يكون من الضروري إضافة كفاءة المياه والمحتوى المائي الافتراضي إلى بطاقة كفاءة الطاقة وقائمة المحتويات لأي مُنتج.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»