توقيت القاهرة المحلي 12:59:54 آخر تحديث
  مصر اليوم -

معاندة الطبيعة لن تُنقِذ البيئة

  مصر اليوم -

معاندة الطبيعة لن تُنقِذ البيئة

نجيب صعب
بقلم - نجيب صعب

هل يمكن للتكنولوجيا وحدها أن تُوقِف انهيار الأنظمة الطبيعية، من دون معالجة أساس المشكلة وتعديل أنماط الإنتاج والاستهلاك؟ يُطرح هذا السؤال مع كل إعلان عن تقدُّمٍ أحرزه العلماء لتطويع الطبيعة، مثل تطوير نباتات وحيوانات معدّلة جينياً لتحمُّل تغيُّرات المناخ، وامتصاص الكربون من الأجواء، وتطوير تقنيات جديدة لإنتاج الثلوج الاصطناعية، كما للاستمطار وتحلية مياه البحر، وصولاً إلى اكتشاف مياه متجمّدة على سطح المريخ.

‏أثَر هذه الإنجازات العلمية، على أهميتها، لن يتعدى شراء الوقت، ما لم ترافقها تدابير حازمة لوقف هدر الموارد المحدودة وتلويثها. لكن من طبائع المجتمعات الاستهلاكية شراء الوقت، لتأخير تجرُّع الدواء المرّ. وقد عبّر المبعوث الأميركي السابق للمناخ جون كيري، عن هذا الموقف حين دعا إلى اعتماد الحلول التكنولوجية لتعذُّر فرض تبديل في أنماط الحياة على المستهلكين. وهذا يعكس خوف السياسيين من مواجهة الحملات الشعبوية، التي تصنِّف السياسات المنظِّمة لأنماط الاستهلاك تدخُّلاً في الحريات الشخصية. ولا ننسى حملات دونالد ترمب الانتخابية ضد القيود على عبوات البلاستيك وتجهيزات المياه في الحمامات والمطابخ، وعبارته الشهيرة أن «الدوش الموفّر» للمياه لا يناسب شعره «الجميل». ناهيك بمعارضة أيّ قيود على إنتاج لحوم الأبقار، التي تسبّب تربيتها القَدر الأكبر من انبعاثات «الميثان»، أقوى غازات الاحتباس الحراري، كأن «طريقة الحياة الأميركية» لا تستقيم إلا بالتهام شطائر الهمبرغر البقري يومياً.

‏تذكّرت هذه كلّها وأنا أقرأ أخيراً تفاصيل التجربة الأولى خارج المختبر لعكس أشعة الشمس إلى الفضاء بواسطة الغيوم. فقد استخدم علماء أميركيون آلة خاصة لرش الغبار الملحي على الغيوم فوق المحيط، من أجل تحويل السُّحُب إلى مرايا تعكس أشعة الشمس وتعيدها إلى الفضاء، للتخفيف من احترار الأرض. نجاح هذه التجربة يتطلّب القدرة على التحكُّم بكمية الهباء الجوّي وحجم الرذاذ المنثور. فتغيير تركيب الغيوم فوق المحيطات بلا ضوابط قد يؤدّي إلى انعكاسات مجهولة لا يمكن التحكُّم بها، مما ينطوي على تبدُّل في الأنماط المناخية يمهِّد لسيناريوهات مرعبة. فقد يؤدي عكس كمية من الإشعاع الشمسي نحوَ الفضاء إلى تبريد مؤقت وإبطاء وتيرة الاحترار العالمي، لكن التلاعب بالنظام المناخي الطبيعي قد يتسبّب بكوارث في أماكن أخرى، مثل زيادة الأمطار في منطقة جافة وتحويل مناطق غيرها إلى أراضٍ قاحلة، مع تبدّل لا يمكن توقّعه في أنماط العواصف والأعاصير. ‏العُلماء الذين يقفون وراء برنامج تحويل السُّحُب إلى مرايا عاكسة يعتقدون أن هذا، حتى في حال نجاحه، لا يتعدى شراء الوقت في انتظار الحل الوحيد الناجح؛ وهو خفض الانبعاثات المسبّبة للاحترار العالمي. لكن التأخير المتواصل في تحقيق الالتزامات الكفيلة بالحدّ من زيادة معدلات الحرارة فوق 1.5 درجة مئوية هو ما استدعى البحث عن بديل وقتي، هو التدخُّل البشري لتعديل الأنظمة المناخية. غير أن الحجب الاصطناعي للشمس ليس بديلاً عن خفض الانبعاثات، مما يستدعي القبول بمبدأ تعديل أنماط الإنتاج والاستهلاك.

‏رشّ الثلوج الاصطناعية على حلبات التزلُّج التي حوّلها تغيُّر المناخ إلى جبال جرداء هو نموذج آخر لشراء الوقت. وهنا نتحدث عن جبال الألب نفسها، التي تضمّ أهمّ المنتجعات الشتوية في العالم وأشهرها، والتي كان موسم التزلُّج فيها يُعدّ الأكثر استقراراً. وكان متاحاً لمن يحجز لعطلة تزلُّج في أحدها خلال الموسم أن يشتري بوليصة تأمين رخيصة للتعويض عن وجود نوعية ثلج صالحة للتزلُّج على الحلبات في حالات الطوارئ. هذا كلّه صار من الماضي، إذ تحوّل الوضع الطارئ إلى حالة عادية، من جبال الألب السويسرية إلى النمساوية والفرنسية والإيطالية. فقد أصبحت آلات رشّ الثلوج الحل الوحيد للإبقاء على بعض المنتجعات مفتوحة فترة كافية لتغطية مصاريفها. وأعلن منتجع شهير قرب مدينة برن السويسرية الشهر الماضي إقفال حلباته نهائياً، بعدما قلّ عدد أيام الثلج الطبيعي الصالح للتزلُّج إلى ما دون عشرة أيام في السنة. وكانت سبقته منتجعات تزلُّج في فرنسا وإيطاليا، حيث لم تَعُد الثلوج الاصطناعية نفسها حلاً مجدياً، بسبب ذوبانها تحت درجات حرارة تواصِل الارتفاع. ويتقلّص التزلُّج في جبال الألب النمساوية إلى المرتفعات العالية، مع إغلاق الحلبات المتوسّطة أياماً طويلة من الموسم التقليدي، لعدم جدوى الثلج الاصطناعي عليها. كما يواجه انتشار الثلج الاصطناعي معارضة في هذه البلدان، لآثاره على إمدادات المياه واستهلاك الطاقة والتلوّث.

‏تحويل الغيوم إلى مرايا تعكس أشعة الشمس، ورشّ الثلج الاصطناعي على حلبات التزلُّج، وامتصاص الكربون من الجو، قد تكون وغيرها تدابير لا مهرب منها في مواجهة الارتفاع المتسارع في الحرارة وحلاً مؤقتاً لتمديد استمرار النشاطات البشرية فترة إضافية. لكنها جميعاً تبقى مجرّد شراءٍ للوقت، إذ لن يوقف الكارثة سوى تدابير جذرية تضع حداً للانبعاثات الحرارية واستنزاف الموارد والتلوّث.

‏احترام الطبيعة لا يعني الخضوع لها، بل العمل معها وليس معاندتها وتدميرها. ‏كما أن نجاح التكنولوجيا لا يعوّض عن فشل السياسات.

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)

ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معاندة الطبيعة لن تُنقِذ البيئة معاندة الطبيعة لن تُنقِذ البيئة



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 22:43 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته
  مصر اليوم - عمر خيرت يكشف عن لحظة فارقة في حياته

GMT 09:44 2024 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

جورج وأمل كلوني يحتفلان بذكرى زواجهما في أجواء رومانسية

GMT 12:02 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

نصائح وأفكار لإطلالات أنيقة ومتناسقة

GMT 20:58 2016 الجمعة ,28 تشرين الأول / أكتوبر

لجان البرلمان المصري تستعد لمناقشة أزمة سورية

GMT 23:21 2018 الأربعاء ,21 آذار/ مارس

تعرفي على خطوات للحفاظ على "لون الصبغة"

GMT 23:40 2018 الأحد ,04 آذار/ مارس

تعرف على سعر ومواصفات سكودا كودياك 2018

GMT 19:31 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

الشرطة تكشف تفاصيل تجريد أستاذ جامعي من ملابسه

GMT 18:47 2018 الثلاثاء ,30 كانون الثاني / يناير

شركة فيات كرايسلر تكشف عن تراجع ديونها بمقدار النصف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon