بقلم - نجيب صعب
عبارة «مصنوعة من مواد معادة التدوير» هي أوّل ما لفت انتباهي في ملصق مربوط على كنزة صوف في أحد المتاجر. وعند التدقيق، وجدت أن المقصود بإعادة التدوير هو الملصق الصغير وليس الكنزة نفسها، غير المصنوعة من مواد مستعملة أو قابلة للتدوير. هذا نموذج متطرّف من عمليات الاحتيال التي تتوخى خداع المستهلك وتجنُّب الملاحقة القانونية في الوقت عينه. وإذا كان هذا النوع من التضليل ممكناً في بلد أوروبي يفرض معايير صارمة على المعلومات في الملصقات التي تصِف مكوّنات كل منتَج، والمعايير المعتمدة في التصنيع، فما يحصل في بلدان العالم الثالث هو كذب مكشوف بلا خوف من عواقب وعقوبات. وفي وصف مكوّنات الملصق القابل للنزع تحايُلٌ على القانون، إذ إنه بالفعل معاد التصنيع ويمكن نزعه عن الكنزة، وليس في هذا ما يوجب العقاب. لكن من يمكن أن يتصوّر أن المقصود هو هذه القطعة الورقية الصغيرة وليس الكنزة نفسها؟
لقد أصبحت حماية البيئة والحفاظ على الموارد الطبيعية وتجدّدها والاستدامة شعارات شائعة تستهوي المستهلك الذي، حتى ولو لم يكن مؤمناً بمضمونها وأهمية تطبيقها، فهو يجاهر بها للّحاق بالحداثة والموضة الرائجة. علماً أن الوعي بأهمية الحفاظ على توازن الموارد وعدم استنزافها أصبح سمةً طاغية في كثير من المجتمعات. وكما نجد بين المستهلكين مَن يرفعون شعارات البيئة كموضة من جهة، ومَن يؤمنون فعلاً بمضمونها من جهة أخرى، فإننا واجدون شركات تستخدم شعارات البيئة غطاءً للخداع التجاري التسويقي، وأخرى تلتزم بمعايير دقيقة وصادقة تعبيراً عن مسؤوليتها الاجتماعية. كما أن بعض الهيئات التي تعطي شهادات التصنيف تتمتع بخبرة وجدارة، والأخرى وهمية تبيع شهادات مزيّفة.
يكفي أن نستعرض الإعلانات التي تضعها هيئات زائفة تتلطى وراء أسماء مثل «أكاديمية» و«شركة جامعية» و«منظمة دولية»، لمنح شهادات وهمية وألقاب مثل «خبير» و«مستشار» و«محكّم» و«مراقب»، لكي نتوقع ماذا يمكن أن ننتظره من هؤلاء. فهم يسوّقون أنفسهم كاختصاصيين مؤهلين لإعطاء أوراق اعتماد بيئية لمصانع وشركات ومنتجات من جميع الأنواع، ولكل شهادة سعرها. وفي غياب الرقابة، تصبح تجارة أصحاب الألقاب الزائفة، من «جامعات» وهيئات وهمية، رائجة. ويساعدهم في فعلتهم صمت مريب وتبادل في التكاذب. فمعظم أصحاب شهادات الدكتوراه من جامعات وهمية، التي فُضح أمرها منذ سنوات طويلة، ما زالوا في وظائفهم في دول عربية عدة، وبعضهم من كبار المسؤولين الحكوميين و«أساتذة» الجامعات. فما هي الإنجازات التي يمكن انتظارها من هؤلاء غير الانهيارات والكوارث؟ ولم نسمع أنه تمّت معاقبة أو إقفال شركات تجارية تعمل تحت اسم «جامعة» بعد فضائح توزيع آلاف الشهادات الوهمية، وآخرها في لبنان ومصر. هؤلاء الزائفون هم بين من يمنح شهادات اعتماد وتصنيفات بيئية، وهم من يراقب الالتزام حيث وُجد قانون.
من نماذج الملصقات الغامضة المضمون على المنتجات الرائجة في بلداننا: «أغذية عضوية»، «أسمدة عضوية»، «منتج مستدام»، «صديق للبيئة»، «طبيعي»، «العلامة الخضراء»، «قليل الكربون»، «موفّر للطاقة». هذه الشعارات الجميلة تصبح مدعاة للشك في مصداقيتها حين لا تدعمها إيضاحات وإثباتات، ولا تخضع لتدقيق علمي مستقل ورقابة من اختصاصيين حقيقيين لا حملة شهادات وألقاب وهمية. فمَن أجرى الاختبارات وأين، وماذا كانت النتائج، ووفقاً لأي معايير؟
صناعة الثياب والأغذية في طليعة الفئات المتاجِرة بالشعارات البيئية المضلّلة. ولا يكفي وضع المنتج في كيس ورقي أو علبة كرتون بنّية اللون، مع شعار «معاد التصنيع»، ليكون سليماً بيئياً. فقد بيّنت دراسة نُشرت أخيراً أن 60 في المائة من الأسماء الشهيرة للثياب تضع ملصقات بمعلومات مضلّلة للزبائن، وبعضها يحتوي على كمية أكبر من الألياف الاصطناعية غير القابلة للتحلُّل، وتنبعث خلال مراحل إنتاجها وتوزيعها كميات ضخمة من الكربون، وتستهلك كميات أكبر من المياه وتلوّثها، مقارنة بمنتجات أخرى لا تدّعي الاستدامة. ومن أغرب التناقضات الحملات الإعلانية التي تقوم بها بعض دور الأزياء الكبرى لترويج إنتاجها على أنه مستدام بيئياً ويحافظ على الموارد، في حين أن حماية البيئة تبدأ من ضبط أنماط الاستهلاك.
لا شك أن التأكّد من صحة الشعارات البيئية على المنتجات الغذائية هو الأكثر تعقيداً، لما لإنتاج الأغذية من تأثيرات كبرى على الطبيعة. فالزراعة غير المستدامة، بما فيها الإنتاج الحيواني، تساهم في التصحُّر والجفاف وخفض خصوبة التربة، وتنتج نفايات ملوِّثة وتنفث انبعاثات ضارة في الأجواء، خاصة غاز الميثان. أما منتجو المبيدات الحشرية فما زالوا من أقوى جماعات الضغط، إذ يتابعون تسويق بعض أكثر المواد سمّية، خاصة في الدول النامية، مع شروح مضلّلة على العبوات. كما تروِّج شركات العلاقات العامة التي يدفعون لها مئات الملايين للمجاعة إذا توقَّف استخدام منتجاتها.
ومن النماذج البارزة على الخداع المعلومات الكاذبة على عبوات مستحضرات التجميل، التي يستغل منتجوها ثغرات في القوانين لإخفاء التأثيرات الصحية الخطِرة لقسم كبير منها. وأذكر أن كثيرين فوجئوا بالمعلومات الدقيقة التي تضمنها أحد مواضيع الغلاف لمجلة «البيئة والتنمية» عام 2005 بعنوان «سُمّ في عطرِك»، واعتبروها مبالغة. فهو عرض لائحة بعشرات أصناف العطور ومواد التجميل المحتوية على مواد سامة ضارّة بالبشر والطبيعة، من دون أي إشارة إليها على الملصق. لكن الاهتمام بهذا الموضوع على مستوى العالم ازداد في السنوات الأخيرة، وفُرضت رقابة أكبر للتأكد من صحة المعلومات المرافقة لمستحضرات التجميل.
وفي حين فرضت معظم الدول المتقدمة شروطاً صارمة على صانعي السيارات والمعدات والأدوات المنزلية لوضع شروح واضحة عن استهلاكها من الوقود والكهرباء، والانبعاثات، والمواد المستخدمة وأثرها البيئي، ما زالت المعلومات المرافقة لهذه المنتجات في معظم الأسواق العربية غامضة أو غائبة كلياً، ما عدا بعض الدول التي طوَّرت أجهزة محترفة لوضع المواصفات والمقاييس، مع هيئات رقابية فاعلة.
لكن بالرغم من القوانين والقيود، فقد وجدت دراسة أن 53 في المائة من الادعاءات البيئية على المنتجات المبيعة في دول الاتحاد الأوروبي ما زالت «غامضة ومضلِّلة وغير مثبتة»، و40 في المائة «غير صحيحة». ولأن هذا يحصل بسبب ثغرات في القوانين، فقد أقرّ الاتحاد الأوروبي قوانين إضافية للملصقات على المنتجات. وهذه تفرض على الشركات الخضوع لتدقيق من هيئات مختصة مرخّصة، وإجراء تقييم علمي مستقل وتحقيق عن صحة المعلومات، قبل السماح بوضع ملصقات على المنتجات. وحتى يتمكّن المستهلك من التحقُّق، يفرض القانون الجديد على الشركات وضع «باركود» على الملصق، يتيح عند مسحه بكاميرا هاتف ذكي الوصول إلى معلومات كاملة توثّق الادعاءات.
محاربة «الغسل الأخضر» تكون بوضع قواعد صارمة لمنع الادعاءات المضلّلة. وهذا يتطلّب قوانين تقوم على أسس علمية، وهيئات رقابية مؤهّلة لفرض تنفيذها، مع عقوبات رادعة للمخالفين.