بقلم:نجيب صعب
تفشي جائحة «كورونا» أعاد معضلة النفايات البلاستيكية إلى الواجهة. فمع أن كمية النفايات، عامة، تضاءلت خلال سنتين بسبب الحجر وتراجع النشاط الاقتصادي، إلا أن استهلاك الأدوات الطبية ذات الاستعمال الواحد ازداد أضعافاً، من الكمامات والقفازات، إلى العبوات المستخدمة لإجراء الفحوصات في المختبر أو المنزل. وتقدر دراسة بريطانية حديثة أن عبوات الفحص المنزلي التي استخدمها العالم خلال سنة هي بحجم 1200 بركة سباحة أولمبية، ويمكنها تعبئة 12 مليون مغطس حمام.
بعض النفايات البلاستيكية انتهت في المحارق والمطامر، والبقية ذهبت مباشرة إلى مكبات عشوائية، لتلوث الأرض والبحار. وفي حين تم التعامل مع هذه العبوات البلاستيكية كنفايات طبية خطرة وسامة، فقد تبين لاحقاً أنه يمكن تدويرها وإعادة تصنيع أدوات أخرى مفيدة منها، لأن الوباء ينتقل في الهواء وليس عن طريق اللمس.
المطلوب ليس منع استعمال البلاستيك، بل إدارة إنتاجه واستخدامه وإعادة تصنيعه والتخلص من فضلاته على نحو ملائم. وليس غريباً أن يكون إنتاج البلاستيك تضاعف مرات خلال العقود الأخيرة، لما له من استخدامات مفيدة. فهو خفيف الوزن، قليل الكلفة، يساعد في حفظ الطعام والعزل الحراري للأبنية وتعزيز كفاءة السيارات، إذ يخفف وزنها حين يحل مكان القطع المعدنية. آلاف الاستخدامات المفيدة للبلاستيك كانت وراء مضاعفة إنتاجه خلال السنوات العشرين الأخيرة من 234 مليون طن إلى 460 مليون طن في السنة. لكن كمية النفايات البلاستيكية ازدادت بنسبة أكبر خلال الفترة نفسها، من 156 مليون طن إلى 353 مليون طن سنوياً. والسبب أن إعادة التصنيع لم تواكب زيادة الإنتاج، إذ اقتصرت على 9 في المائة من الفضلات البلاستيكية، بينما انتهى 19 في المائة منها إلى المحارق، و50 في المائة إلى المطامر الصحية، ودُفن الباقي في مكبات عشوائية أو حُرق في الهواء الطلق.
الإدارة السيئة هي السبب الرئيسي لتسرب 22 مليون طن من الفضلات البلاستيكية سنوياً إلى الطبيعة مباشرة. أما كميات الفضلات البلاستيكية المتجمعة في الأنهار والبحيرات والمحيطات فتصل حالياً إلى 150 مليون طن. لذا من الضروري البدء سريعاً بتنظيف المكبات البرية والأنهار من الفضلات، لمنع تسربها إلى البحار والمحيطات. فكلما تأخر الوقت ازداد خطر النفايات البلاستيكية، بتحولها إلى أجزاء صغيرة يصعب جمعها، عدا كونها الأشد ضرراً بالصحة. وإلى جانب الضرر على الصحة البشرية، تؤدي الإدارة السيئة للبلاستيك إلى أضرار في الحياة البرية والأنظمة الطبيعية، وخسائر اقتصادية ناجمة عن أثر النفايات البلاستيكية على تدهور الثروة البحرية، بما يُفقد صيادي الأسماك مصدر رزقهم، ويضرب السياحة الساحلية بسبب تلويث الشاطئ والبحر.
ازداد الاهتمام بالتلوث البلاستيكي في السنوات الأخيرة، وبدأت دول عدة اتخاذ إجراءات عملية لحسن إدارته وتخفيف أثره البيئي في جميع المراحل، من الإنتاج إلى الاستعمال فإعادة التصنيع. ومن أهم المساهمات في هذا المجال تقرير صدر أخيراً عن منظمة التعاون الدولي والتنمية بعنوان «التوقعات العالمية للبلاستيك: الدوافع الاقتصادية، الآثار البيئية، السياسات الممكنة». وهو يخلص إلى اقتراح حل يقوم على أربعة مسارات؛ أولها فتح الأسواق للبلاستيك المعاد الاستعمال، بما يتطلب فرض قيود ضريبية وإعطاء حوافز لجعل إعادة التصنيع عملية مجزية. ومن التدابير الممكنة تمديد الفترة التي يتحمل خلالها المصنع مسؤولية الأدوات التي ينتجها، لتغطي دورة حياتها الكاملة.
ويقوم المسار الثاني على تشجيع الابتكار، في مراحل التصنيع والاستعمال والتدوير. والمفارقة أنه مع ازدياد براءات الاختراع في مجال صناعة البلاستيك 3 أضعاف خلال 30 عاماً، لم تتجاوز تلك المتعلقة بتقنيات التدوير وتخفيف الهدر والتلويث 1.2 في المائة منها. أما المسار الثالث فيدعو إلى سياسات وطنية لتحسين إدارة البلاستيك، من التحكم في حجم الطلب إلى تحسين التصاميم، بما يؤدي إلى تخفيف كمية الفضلات بتطويل فترة الاستعمال، إضافة إلى وضع رسوم على رمي النفايات البلاستيكية، وبناء مراكز معالجة حديثة، مع إطار قانوني لفرض التخلص السليم منها ومعالجتها.
ويركز تقرير منظمة التعاون في مساره الرابع على التعاون الدولي، بدءاً من وضع سياسات وقوانين تشمل جميع الدول، لأن النفايات البلاستيكية مشكلة عابرة للحدود. لكن التقرير يدعو أيضاً إلى مساعدة الدول الفقيرة بنحو 28 مليار دولار سنوياً لمعالجة مشكلة التلوث البلاستيكي، من الإنتاج إلى الاستعمال والتدوير ومعالجة الفضلات. فالحل يكون في الإدارة السليمة للبلاستيك وليس في منع إنتاجه واستخدامه. وفي مواكبة متقدمة للاتجاهات العالمية، أعلنت أبوظبي منع أكياس البلاستيك ذات الاستعمال الواحد ابتداء من الشهر المقبل.
صحيح أن السياسات الحكومية ضرورية لإحداث تغيير إيجابي على المستوى العام، لكن بعض المبادرات الفردية الناجحة تسبق الحكومات أحياناً. ولدينا في قطاع النفايات البلاستيكية الطبية نموذجان رائدان. فالدكتور مهدي بدير، الجراح الأميركي من أصل لبناني، يقوم مع فريقه منذ سنوات بجمع الفضلات البلاستيكية من المستشفى الذي يعمل فيه في ولاية تينيسي، لفرزها وإرسالها للمعالجة. وقد حفزت مبادرته مراكز صحية كثيرة على إطلاق برامج مشابهة، خصوصاً بين طلاب الطب والعاملين في مجال الرعاية الصحية. وفي حين بقيت مبادرة الدكتور بدير تطوعية حتى اليوم، فقد حول الجراح الهولندي الدكتور يوست فان دير سايب مبادرته إلى شركة تدوير خاصة.
شركة «غرين سيكل»، التي أسسها الجراح الهولندي، تجمع الأدوات البلاستيكية المستعملة من المستشفيات، فتفرزها وفق مكوناتها وتعيد تصنيع معظم أجزائها. وقد فرضت «غرين سيكل» على الشركات المصنعة للأدوات الطبية استخدام قطع متفرقة، بحيث يسهل فصل الأجزاء القابلة لإعادة التصنيع عن غيرها. وفي حين يستمر الدكتور فان دير سايب في عمله جراحاً لأمراض السرطان وأستاذاً محاضراً في موضوع «الجراحة المستدامة» في جامعة «دلفت» الهولندية، تستمر شركته في التوسع عالمياً لفتح آفاق جديدة في إدارة النفايات الطبية.
«رَكِبَه الهم» قولٌ شعبي شائع عند العرب لوصف حالة شخص يواجه مشكلة عويصة. ما يقوم به الدكتور بدير في الولايات المتحدة والدكتور فان دير سايب في هولندا دليل على أن الإنسان قادرٌ، بعقله وإرادته، على استنباط حلول تمكنه من أن «يركب الهم» القاتل ويحوله إلى «اهتمام» مُنتِج.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»