بقلم:نجيب صعب
الذين كانوا يتوهمون أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر والإنتاج الأنظف مسألة بسيطة، اكتشفوا في التطبيق أن القضية معقدة، كأنما «كلما داويت جرحاً سال جرح». ذلك أن معالجة المشاكل البيئية المتراكمة تتطلب عملاً على جبهات متعددة، والتزاماً بعيد المدى، واستعداداً لتبديل الكثير من الأنماط الاستهلاكية. وخلال التنفيذ، سيكتشف صانعو السياسات أن عليهم تعديل خططهم في ضوء التجربة، مع الحفاظ على الهدف الأسمى، وهو حماية الحياة ومنع انهيار النظام الطبيعي. كما ستكتشف الحكومات الكثير من الأخطاء، وتعاني فشل بعض برامجها. لكن المهم هو التصحيح وعدم العودة إلى الممارسات القديمة. فالمطلوب استنباط بدائل توازن بين حماية البيئة والنمو الاقتصادي وحاجات البشر، وليس التحجج بإخفاق برنامج محدد لنسف الخطط من الأساس والتخلي عن الهدف.
بينما كانت المفوضية الأوروبية تستعد لطرح مشروع يعتبر أن بعض أساليب إنتاج الغاز الطبيعي والطاقة النووية يدخل في نطاق «الطاقة النظيفة» ويستحق الدعم على هذا الأساس، كانت ألمانيا تغلق ثلاثاً من محطاتها النووية الست المتبقية. حجة المفوضية الأوروبية أن الوصول إلى «صفر انبعاثات» سنة 2050، بالتوازي مع توفير مصادر طاقة بتكاليف يمكن للمستهلكين تحملها، يتطلب تدابير انتقالية في المدى القريب. وهي اعتبرت أن تحقيق هذا الهدف ممكن عن طريق إنتاج الكهرباء من مفاعلات نووية تتمتع بشروط صارمة للسلامة أثناء التشغيل، وتطبق أساليب آمنة في التخلص من النفايات المشعة. ومعروف أن الغاز الطبيعي هو الأقل تلويثاً بين مصادر الوقود التقليدية الأخرى، إذا تم إنتاجه واستخدامه وفق معايير صارمة.
ويذكر أن فرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي تعتمد على الطاقة النووية لإنتاج معظم حاجاتها من الكهرباء. ويقوم برنامج «الاقتصاد الأخضر» في كوريا الجنوبية على الطاقة النووية تحديداً، التي تعتبرها مأمونة وفعالة وخالية من الانبعاثات، وتصنفها في فئة «الطاقة الخضراء». لكن ألمانيا تقود حملة لمنع إقرار اقتراح المفوضية الأوروبية توفير الدعم لمحطات الطاقة النووية، مهما كانت مواصفاتها. فالحكومة الألمانية الجديدة تثق في قدرتها على تأمين حاجة البلاد إلى الطاقة، بحلول سنة 2050، من مصادر متجددة نظيفة وآمنة كلياً، في طليعتها الرياح والشمس، والهيدروجين كوقود وسيط.
ولا يختلف الأمر في هولندا، حيث يحتدم النقاش حول السياسات المثلى الكفيلة بخفض التلوث والانبعاثات، من دون التسبب في انهيار اقتصادي. وقد كانت هولندا، حتى وقت قريب، منتجاً كبيراً للغاز الطبيعي، من حقول ضخمة في شمال البلاد تم اكتشافها قبل ستين عاماً. لكن الحفريات والضخ من الحقل الأكبر بينها، الواقع قرب مدينة «خروننغن»، بدأ يتسبب في السنوات الأخيرة في زلازل وارتجاجات أدت إلى تصدعات في آلاف المنازل، مما دفع الحكومة إلى تقليص الإنتاج بنحو 70 في المائة، تمهيداً لوقفه كلياً. وتزامن هذا مع ارتفاع كبير في أسعار الغاز العالمية، واضطرار هولندا إلى الاستمرار في تنفيذ عقود طويلة الأجل لمد دول مجاورة بالغاز، مما جعل البلد يعتمد بشكل كبير على استيراد الغاز للاستهلاك المحلي من روسيا، بأسعار مضاعفة. وهولندا من بين الدول التي قررت وقف المحطات النووية كلياً والإغلاق السريع للمحطات العاملة بالفحم الحجري. ولكن رغم مضاعفة الاستثمارات في الطاقات المتجددة، وخاصةً الرياح، لا يزال الإنتاج قاصراً عن سد العجز. لذا تضغط بعض الأحزاب لإعادة البحث في إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية، بمعايير صارمة، كخيار مرحلي. كما طرحت أحزاب هولندية أخرى إعادة النظر في خفض إنتاج الغاز من حقول الشمال، رغم الأخطار الجيولوجية.
ومن المفارقات أن المشاريع الناجحة لإنتاج الكهرباء من الرياح والشمس تصطدم أيضاً بتناقضات تؤثر في تحديد أولويات الاستهلاك. فعلى مسافة 50 كيلومتراً شرقي أمستردام، تبني شركات خاصة مئات التوربينات الهوائية الضخمة لإنتاج الكهرباء من الرياح. لكن تبين أن شركة «ميتا» الأميركية، التي تملك أهم منصات التواصل الاجتماعي في العالم، مثل «فيسبوك» و«واتساب»، حصلت على موافقة السلطات المحلية لبناء مركز ضخم للبيانات في المنطقة نفسها، على ملايين الأمتار المربعة من الأراضي الزراعية. هذا المركز، المصمم لخدمة مناطق واسعة في العالم، سيستهلك كميات من الكهرباء تفوق كامل إنتاج مزارع الرياح الجديدة حوله، أو ما يوازي استهلاك سكان مدينة أمستردام الـ800 ألف من الكهرباء.
السلطة المحلية وافقت على المشروع، باعتبار أنه يخلق فرص عمل ودخلاً للمنطقة. لكن الحكومة تحاول الآن وقفه، بعد احتجاجات شعبية اعتبرت مضاره أكبر كثيراً من فوائده المزعومة. فعدا عن تسببه بخسارة الأراضي الزراعية وحاجته إلى كميات ضخمة من المياه العذبة للتبريد، ينافس المركز السكان المحليين على الكهرباء النظيفة المعتدلة الكلفة، وذلك لقاء حفنة من الدولارات.
كل هذه الأحداث تؤكد مجدداً الحاجة إلى تسويات تقوم على العقلانية والتوازن في السياسات. فالتحول لا يحصل بسحر ساحر. ولا بد من فترة انتقالية تبقى فيها مصادر الوقود التقليدية جزءاً أساسياً من مزيج الطاقة، مع العمل على تطوير تكنولوجيات التقاط الكربون وإعادة استعماله وتخزينه بأمان. لكن الأولوية تبقى لتعزيز الكفاءة وترشيد الاستهلاك، مهما كان مصدر الطاقة.
نحن أمام خيارات بيئية أحلاها صعب ومُر، لأن لكل منها تكاليفه الباهظة. لكن كلما اشتد خطر المرض، زادت مرارة الدواء الشافي.