توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خيارات بيئية أحلاها مُر

  مصر اليوم -

خيارات بيئية أحلاها مُر

بقلم:نجيب صعب

الذين كانوا يتوهمون أن التحول إلى الاقتصاد الأخضر والإنتاج الأنظف مسألة بسيطة، اكتشفوا في التطبيق أن القضية معقدة، كأنما «كلما داويت جرحاً سال جرح». ذلك أن معالجة المشاكل البيئية المتراكمة تتطلب عملاً على جبهات متعددة، والتزاماً بعيد المدى، واستعداداً لتبديل الكثير من الأنماط الاستهلاكية. وخلال التنفيذ، سيكتشف صانعو السياسات أن عليهم تعديل خططهم في ضوء التجربة، مع الحفاظ على الهدف الأسمى، وهو حماية الحياة ومنع انهيار النظام الطبيعي. كما ستكتشف الحكومات الكثير من الأخطاء، وتعاني فشل بعض برامجها. لكن المهم هو التصحيح وعدم العودة إلى الممارسات القديمة. فالمطلوب استنباط بدائل توازن بين حماية البيئة والنمو الاقتصادي وحاجات البشر، وليس التحجج بإخفاق برنامج محدد لنسف الخطط من الأساس والتخلي عن الهدف.

بينما كانت المفوضية الأوروبية تستعد لطرح مشروع يعتبر أن بعض أساليب إنتاج الغاز الطبيعي والطاقة النووية يدخل في نطاق «الطاقة النظيفة» ويستحق الدعم على هذا الأساس، كانت ألمانيا تغلق ثلاثاً من محطاتها النووية الست المتبقية. حجة المفوضية الأوروبية أن الوصول إلى «صفر انبعاثات» سنة 2050، بالتوازي مع توفير مصادر طاقة بتكاليف يمكن للمستهلكين تحملها، يتطلب تدابير انتقالية في المدى القريب. وهي اعتبرت أن تحقيق هذا الهدف ممكن عن طريق إنتاج الكهرباء من مفاعلات نووية تتمتع بشروط صارمة للسلامة أثناء التشغيل، وتطبق أساليب آمنة في التخلص من النفايات المشعة. ومعروف أن الغاز الطبيعي هو الأقل تلويثاً بين مصادر الوقود التقليدية الأخرى، إذا تم إنتاجه واستخدامه وفق معايير صارمة.
ويذكر أن فرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي تعتمد على الطاقة النووية لإنتاج معظم حاجاتها من الكهرباء. ويقوم برنامج «الاقتصاد الأخضر» في كوريا الجنوبية على الطاقة النووية تحديداً، التي تعتبرها مأمونة وفعالة وخالية من الانبعاثات، وتصنفها في فئة «الطاقة الخضراء». لكن ألمانيا تقود حملة لمنع إقرار اقتراح المفوضية الأوروبية توفير الدعم لمحطات الطاقة النووية، مهما كانت مواصفاتها. فالحكومة الألمانية الجديدة تثق في قدرتها على تأمين حاجة البلاد إلى الطاقة، بحلول سنة 2050، من مصادر متجددة نظيفة وآمنة كلياً، في طليعتها الرياح والشمس، والهيدروجين كوقود وسيط.
ولا يختلف الأمر في هولندا، حيث يحتدم النقاش حول السياسات المثلى الكفيلة بخفض التلوث والانبعاثات، من دون التسبب في انهيار اقتصادي. وقد كانت هولندا، حتى وقت قريب، منتجاً كبيراً للغاز الطبيعي، من حقول ضخمة في شمال البلاد تم اكتشافها قبل ستين عاماً. لكن الحفريات والضخ من الحقل الأكبر بينها، الواقع قرب مدينة «خروننغن»، بدأ يتسبب في السنوات الأخيرة في زلازل وارتجاجات أدت إلى تصدعات في آلاف المنازل، مما دفع الحكومة إلى تقليص الإنتاج بنحو 70 في المائة، تمهيداً لوقفه كلياً. وتزامن هذا مع ارتفاع كبير في أسعار الغاز العالمية، واضطرار هولندا إلى الاستمرار في تنفيذ عقود طويلة الأجل لمد دول مجاورة بالغاز، مما جعل البلد يعتمد بشكل كبير على استيراد الغاز للاستهلاك المحلي من روسيا، بأسعار مضاعفة. وهولندا من بين الدول التي قررت وقف المحطات النووية كلياً والإغلاق السريع للمحطات العاملة بالفحم الحجري. ولكن رغم مضاعفة الاستثمارات في الطاقات المتجددة، وخاصةً الرياح، لا يزال الإنتاج قاصراً عن سد العجز. لذا تضغط بعض الأحزاب لإعادة البحث في إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية، بمعايير صارمة، كخيار مرحلي. كما طرحت أحزاب هولندية أخرى إعادة النظر في خفض إنتاج الغاز من حقول الشمال، رغم الأخطار الجيولوجية.
ومن المفارقات أن المشاريع الناجحة لإنتاج الكهرباء من الرياح والشمس تصطدم أيضاً بتناقضات تؤثر في تحديد أولويات الاستهلاك. فعلى مسافة 50 كيلومتراً شرقي أمستردام، تبني شركات خاصة مئات التوربينات الهوائية الضخمة لإنتاج الكهرباء من الرياح. لكن تبين أن شركة «ميتا» الأميركية، التي تملك أهم منصات التواصل الاجتماعي في العالم، مثل «فيسبوك» و«واتساب»، حصلت على موافقة السلطات المحلية لبناء مركز ضخم للبيانات في المنطقة نفسها، على ملايين الأمتار المربعة من الأراضي الزراعية. هذا المركز، المصمم لخدمة مناطق واسعة في العالم، سيستهلك كميات من الكهرباء تفوق كامل إنتاج مزارع الرياح الجديدة حوله، أو ما يوازي استهلاك سكان مدينة أمستردام الـ800 ألف من الكهرباء.
السلطة المحلية وافقت على المشروع، باعتبار أنه يخلق فرص عمل ودخلاً للمنطقة. لكن الحكومة تحاول الآن وقفه، بعد احتجاجات شعبية اعتبرت مضاره أكبر كثيراً من فوائده المزعومة. فعدا عن تسببه بخسارة الأراضي الزراعية وحاجته إلى كميات ضخمة من المياه العذبة للتبريد، ينافس المركز السكان المحليين على الكهرباء النظيفة المعتدلة الكلفة، وذلك لقاء حفنة من الدولارات.
كل هذه الأحداث تؤكد مجدداً الحاجة إلى تسويات تقوم على العقلانية والتوازن في السياسات. فالتحول لا يحصل بسحر ساحر. ولا بد من فترة انتقالية تبقى فيها مصادر الوقود التقليدية جزءاً أساسياً من مزيج الطاقة، مع العمل على تطوير تكنولوجيات التقاط الكربون وإعادة استعماله وتخزينه بأمان. لكن الأولوية تبقى لتعزيز الكفاءة وترشيد الاستهلاك، مهما كان مصدر الطاقة.
نحن أمام خيارات بيئية أحلاها صعب ومُر، لأن لكل منها تكاليفه الباهظة. لكن كلما اشتد خطر المرض، زادت مرارة الدواء الشافي.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خيارات بيئية أحلاها مُر خيارات بيئية أحلاها مُر



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon