بقلم - نجيب صعب
مؤتمر التعدين الدولي، الذي عُقد في الرياض أخيراً، يحمل دلالات مهمة، في عاصمة تستضيف عادة مؤتمرات الطاقة، بصفتها أكبر دولة مصدّرة للبترول في العالم... لأنه أبعد من كون هذا الحدث الضخم مؤشراً على الجدية في تنفيذ سياسات تنويع الاقتصاد، فهو دليل على التخطيط الاستباقي، بعدما برزت أهمية المعادن الاستراتيجية في أسواق الطاقة. وقد بحث المؤتمر بناء قطاع معادن عالمي مسؤول، يستثمر في الموارد الطبيعية لمصلحة التنمية، وفي الوقت ذاته يحمي البيئة ويؤمن الاستدامة على أسس التعاون بين الدول والمنظمات والقطاع الخاص. ويكتسب الحدث أهمية استثنائية؛ لأن السعودية نفسها تختزن ثروات معدنية واعدة.
يترافق هذا مع انخراط السعودية بلعب دور محوري في أسواق الطاقات النظيفة والمتجدّدة، من البحث العلمي والتطوير إلى التشغيل والتسويق عالمياً، ابتداءً بتعزيز تدابير الكفاءة والتقاط الكربون وتخزينه، إلى الاستثمارات في الشمس والرياح كمصدرين أساسيين للطاقة المتجددة، والهيدروجين كناقل ومخزّن مضمون للطاقة. وبينما كانت ردود الفعل في السابق سلبية ومشكّكة بكل ما يرتبط بمستجدات في مصادر الطاقة خارج نطاق النفط والغاز، تحوّلت المملكة الآن إلى الانخراط في التكنولوجيات والأسواق الجديدة كلاعب رئيسي منافس.
وبعد أيّام من اختتام الاجتماع الوزاري الذي رافق مؤتمر التعدين، استضافت الإمارات للمرة الخامسة عشرة «أسبوع أبوظبي للاستدامة» و«القمة العالمية لطاقة المستقبل». وفضلاً عن عرض أبرز المستجدّات في التحوّل الطاقوي، ناقش المجتمعون في أبوظبي التحضيرات لقمة المناخ المقبلة (كوب 28) التي تُعقد نهاية السنة في الإمارات، وسبل الوصول إلى نتائج عملية تتعدى التمنيات والنيّات الحسنة. وفي أبوظبي أيضاً، التأمت الأسبوع الماضي الدورة الثالثة عشرة للجمعية العامة للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (آيرينا)، التي جمعت 1500 مسؤول من الحكومات والمنظمات والشركات، لدراسة التقدم المحرز في التحوّل إلى الطاقات النظيفة، ووضع خريطة طريق تكنولوجية وتمويلية للمستقبل.
إذا كان الاهتمام بالطاقة النظيفة والمتجددة طبيعياً، في نطاق برامج خفض الانبعاثات الكربونية لمجابهة التغيُّر المناخي، فما دور المعادن في أمن الطاقة وتغيُّر المناخ؟
المعادن هي العنصر الأساسي لتصنيع الألواح الشمسية وتوربينات الرياح، إلى جانب البطاريات، التي تعتمد عليها السيارات الكهربائية. ومن المتوقّع أن يصبح النيكل أكثر استعمالاً من الحديد في السيارات سنة 2040، إضافةً إلى الليثيوم والكوبالت والغرافيت والنحاس. أما السيليكون فسيبقى المكوّن المعدني الرئيسي لصناعة الألواح الفوتوفولطية الشمسية، إلى أن يتم تطوير بدائل مماثلة في الفاعلية. وإذا كان إنتاج المعادن الاستراتيجية الأخرى موزعاً على دول عدة في العالم بنسب متفاوتة، فالصين تسيطر على هذه السوق اليوم؛ إذ تنتج أكثر من نصف المجموع العالمي من خامات السيليكون، تليها بكميات أقل كثيراً روسيا والولايات المتحدة والنرويج والبرازيل. ولن تظهر قبل عشر سنين نتائج ما أُعلن عنه الأسبوع الماضي في السويد من اكتشاف أكبر مخزون لخامات المعادن النادرة في شمال البلاد، مما قد يخفف من اعتماد أوروبا على الصين كمصدر لنحو 98 في المائة من احتياجاتها للمعادن الاستراتيجية، التي سيقوم عليها اقتصاد المستقبل، ذلك أن أجهزة الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية ستحتاج أضعاف ما تحتاجه محطات الطاقة التقليدية من معادن. وذلك يفسّر توقعات البنك الدولي بارتفاع إنتاج «المعادن الاستراتيجية» 500 ضعف بحلول سنة 2050.
وتتركز احتياطات النيكل، المعدن الأبرز لتصنيع البطاريات، في إندونيسيا وأستراليا، تليهما بدرجة أقل الفلبين وكندا وروسيا. أما احتياطات معدن الليثيوم، الذي يقارع النيكل أهمّية في صناعة البطاريات، فتتركز في دول أميركا الجنوبية، تتقدمها شيلي، تليها أستراليا والأرجنتين والصين والولايات المتحدة وزيمبابوي والبرازيل والبرتغال، بكميات أقلّ.
تعمل إندونيسيا منذ سنوات على حماية أسعار النيكل، عن طريق وضع حدّ للكميات المستخرجة، خصوصاً لأن الدول المستهلكة لا تزال، عن طريق شركات عملاقة خاصة ومتعددة الجنسية، تتحكم في أسواق هذا المعدن المهم؛ فهي تشتريه من بلدان المصدر لقاء أسعار منخفضة، وتبيعه في أسواق العالم بأسعار مضاعفة. وتسعى إندونيسيا إلى إنشاء منظمة للدول المصدّرة للنيكل، على غرار منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك). كما تطمح بلدان في أميركا الجنوبية إلى إنشاء اتحاد لمنتجي الليثيوم، حمايةً لمصالحها في السوق، ومنعاً لاستغلال ثرواتها الطبيعية بأبخس الأثمان، لكن مهمة الطرفين لن تكون سهلة؛ لأن تعدين النيكل والليثيوم ما برح في أيدي شركات خاصة تملك عقوداً حصرية احتكارية طويلة الأجل، وليس في أيدي الحكومات، كما في حال دول «أوبك»، غير أنه من الطبيعي أن تستمر الدول المنتجة للمعادن الاستراتيجية، وفي طليعتها النيكل والليثيوم، في العمل لحماية حقوقها الوطنية، بعدم تجديد الامتيازات، أو اللجوء إلى المحاكم الدولية.
صحيح أن المعادن المستخدمة لصنع البطاريات والألواح الشمسية هي ذات أهمية استراتيجية في أمن الطاقة، لكن استمرار الاحتكار من دول وشركات معينة ونفاد المخزون ليس قدراً محتوماً؛ لأن المكتشفات التكنولوجية تَعِدُ بتقديم بدائل في مجالات متعددة، أولها البطاريات؛ فقد وصلت التجارب على الصوديوم، المستخرج من ملح البحر والمناجم الأرضية، إلى نتائج باهرة لاستعماله بديلاً أساسياً، لا عنصراً مساعداً فقط، لتخزين الكهرباء في البطاريات، خاصة تلك المستخدمة للسيارات الكهربائية. ولن يكون هناك خوف من نضوب مياه البحر، المصدر الأكبر للصوديوم.
المعادن الأساسية المستخدمة في الألواح الشمسية وتوربينات الرياح والبطاريات ستبقى، بدرجات متفاوتة، عنصراً أساسياً في قطاع الطاقة النظيفة؛ لذا يجب ألا نتعجب إذا سمعنا يوماً بتأسيس «منظمة الدول المصدّرة للنيكل»، مثلاً. والدول المصدّرة للنفط تفعل عين الصواب حين تأخذ هذا في الاعتبار من اليوم، كما في مؤتمر الرياض الاستباقي، استعداداً لأن تكون لاعباً لا متفرّجاً.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»