بقلم : نجيب صعب
تدخل قمة المناخ السادسة والعشرون أسبوعها الثاني بإجماع دولي على أمر واحد، هو أن المناخ يتغير فعلاً على نحو خطِر، نتيجة للنشاطات البشرية. وإذا كان بعضهم يعتبر هذا من قبيل «تحصيل الحاصل»، يجدر التذكير أنه قبل فترة قصيرة كانت أصوات المشككين مستمرة في الصداح، حتى في مراكز القرار العليا، من الولايات المتحدة إلى البرازيل. خلال شهور قليلة، قلبت الإدارة الأميركية الجديدة سياسات الرئيس السابق دونالد ترمب المناخية رأساً على عقب، وفقد الرئيس البرازيلي بولسونارو مصداقيته في الداخل والخارج، من المناخ إلى «كورونا»، وانتهى الاثنان في المحاكم. ولا ننسى أن البعض على الضفة الأخرى كان، حتى زمن قريب، يروج لنظرية المؤامرة التي تقول إن التغير المناخي خدعة اخترعتها الدول الصناعية لوضع قيود تعوق تطور الدول النامية.
صحيح أنه، للمرة الأولى منذ انطلاق قمم المناخ قبل 26 عاماً، خَفَتَ تماماً في أروقة المؤتمر صوت المشككين. لكن الاتفاق على وجود المشكلة ومسبباتها شيء، والتوافق على حلول ناجعة لها شيء آخر. فرغم الحماسة التي أظهرها رؤساء الدول في خطبهم الافتتاحية، كان واضحاً أن الخلاف لا يزال قائماً على توزيع أعباء التصدي للتغير المناخي: من يبدأ أولاً، من يُعطى فترة سماح إضافية، من يدفع الكلفة وكيف يتم توزيع الحصص، ما هي سرعة التحول نحو وقف الانبعاثات الكربونية كلياً، وهل تكون موحدة أم متفاوتة وفق مستوى القدرة على التحول؟
من خلاصات الأسبوع الأول أنه وُضع على طاولة النقاش الجدي، للمرة الأولى في مؤتمرات المناخ، موضوع التقاط الكربون الناجم عن حرق الوقود الأحفوري وإعادة استخدامه لأغراض صناعية أو تخزينه، بعدما كان يُطرح سابقاً كفكرة تجريبية بعيدة المنال. لكن التطورات التكنولوجية خلال السنوات الأخيرة جعلت هذا جزءاً من حزمة الحلول الممكنة، غير أن انتشار هذه التقنية يعتمد على النجاح في الوصول إلى أساليب آمنة ورخيصة يمكن اعتمادها وتعميمها. وقد تكون أبرز نقطة تحول في هذا المجال دخول السعودية بقوة عن طريق مبادرة «اقتصاد الكربون الدائري» التي أطلقتها مؤخراً، من خلال أبحاث وتطبيقات محلية وشراكات دولية. وتكتمل المبادرة في إنتاج الهيدروجين كناقل نظيف للطاقة وتصديره مسيلاً. لكن يبقى المطلوب الوصول سريعاً إلى نتائج عملية، مع بقاء الأولوية لتعزيز الكفاءة وتعديل أنماط الاستهلاك والتحول إلى أنماط الإنتاج الأنظف وتعميم استخدامات الطاقة المتجددة.
كما طرحت بعض الدول إعادة الاعتبار إلى التكنولوجيا النووية كخيار مقبول لإنتاج طاقة «نظيفة» ينتج عنها تخفيض سريع في الانبعاثات. لكن إذا صحت صفة «النظافة» فيما يخص خلو الطاقة النووية من الانبعاثات الكربونية، تبقى الحاجة إلى ضمانات السلامة والأمان خلال عمليات الإنتاج وتخزين النفايات المشعة من فضلات المحطات النووية.
تطوران مهمان كانا السبب في استحضار هذه البدائل إلى طاولة النقاش مجدداً: الأول هو تعاظم تأثيرات التغير المناخي خلال السنوات الأخيرة، ما جعل الإسراع في تخفيض حاسم للانبعاثات الكربونية أمراً ملحاً لا يحتمل التأجيل. أما التطور الثاني فهو ما ثبت خلال الشهور الأخيرة من أن المصادر المتجددة لا تكفي وحدها في المدى المنظور لتزويد العالم بالطاقة التي يحتاجها. وفي انتظار تبلور الحلول الأفضل من حيث الكلفة والأمان، لا ريب أن تقنية التقاط الكربون وإعادة استخدامه وتخزينه هي الخيار الأكثر أماناً، عدا عن أنها الأجدى للدول المنتجة للنفط والغاز.
الدول النفطية ليست وحدها من يطالب بتحول سلس يتجنب خضات اقتصادية. ففي أروقة غلاسكو يشن منتجو اللحوم، بقيادة البرازيل، حملة تعارض اعتماد توصيات تدعو إلى خفض إنتاج اللحوم واستهلاكها. لكن رغم هذا كانت البرازيل من الموقعين على اتفاقية توصل إليها المؤتمر لوقف قطع الغابات وإعادة تأهيلها، بما يضع قيوداً على تربية الأبقار وزراعة الأعلاف. من جهة أخرى، ما برحت بعض الدول الرئيسية التي تنتج الفحم الحجري وتستخدمه كمصدر أساسي للطاقة تعارض الاستغناء عنه سريعاً. ففي حين التزمت 40 دولة خلال الأسبوع الأول للمؤتمر بوقف استخدام الفحم الحجري قبل منتصف القرن، اكتفت الصين بوقف تمويل مشاريع جديدة في الدول الأخرى لمحطات الكهرباء العاملة على الفحم، مع الاستمرار في الاعتماد عليه داخل حدودها. وتنتظر دول أخرى، مثل الهند وجنوب أفريقيا الحصول على مساعدات لتمويل التحول من الفحم إلى مصادر أنظف للطاقة. وفي حين بقيت الولايات المتحدة خارج اتفاق الفحم، كانت بين 20 دولة تعهدت بوقف تمويل مشاريع الوقود الأحفوري في الدول الأخرى ابتداءً من 2022 ما لم تعتمد تقنية التقاط الكربون وتخزينه.
عرضت إحدى القنوات التلفزيونية قبل أيام تقريراً عن مؤتمر المناخ حمل عنوان «الفرصة الأخيرة»، وطرحت سؤالاً عن كيف يمكن إقناع الدول بتنفيذ التزاماتها والضغط على الصين، وهي الملوث الأكبر اليوم، لخفض انبعاثاتها على نحو سريع وحاسم. جوابي كان أن الصورة ليست سوداوية إلى هذا الحد، وليس من المفيد إطلاق إنذارات «الفرص الأخيرة»، لأن العالم يتفاوض ولن يمارس انتحاراً جماعياً. فالولايات المتحدة عادت اليوم إلى الحلبة المناخية كلاعب رئيسي إلى جانب الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ تنفيذ «الصفقة الخضراء» للتحول إلى اقتصاد خالٍ من الكربون قبل سنة 2050. والصين التزمت، للمرة الأولى، بتاريخ محدد للوصول إلى «صفر انبعاثات» سنة 2060، وكانت السعودية، المنتج الأكبر للبترول في العالم، التزمت بوقف الانبعاثات الكربونية بالكامل قبل سنة 2060، بالتوازي مع برنامج تنفيذي تضمنته «رؤية 2030» و«مبادرة السعودية الخضراء»، التي كانت حاضرة بقوة في مفاوضات الأسبوع الأول للقمة.
أما الضغط الحقيقي على الصين لتخفيض انبعاثاتها فيكون في وضع حد للطفرة الاستهلاكية حول العالم، التي تُشبع نهمها من المنتجات الصينية المتاحة بأسعار رخيصة بسبب القيود البيئية الضعيفة. وقد يسهم في حل هذه المعضلة احتساب الانبعاثات الكربونية من المنتجات في بلدان الاستهلاك وليس في بلد المصدر، أو في الأقل قسمتها على الطرفين.
لن يمكن للسياسيين بعد اليوم تجاهل الضغط المعنوي الذي يفرضه الإجماع العلمي حول التغير المناخي وآثاره، وضغط الرأي العام الذي تشهده معظم ساحات العالم، وصولاً إلى شوارع غلاسكو، خصوصاً بين الشباب.
وإذ تستمر المفاوضات في الأسبوع الثاني للوصول إلى تسويات لا بد منها، على وقع تقدم واضح في الالتزامات المتبادلة، ستتوافق قمة غلاسكو في النهاية على مقررات قد لا تلبي كل الطموحات، لكنها لن تكون «الفرصة الأخيرة»، إذ ستفتح الباب على فرص كثيرة لمتابعة العمل.