بقلم - نجيب صعب
الحديث مع مندوبي الدول والمنظمات الدولية في «قصر الأمم» في جنيف يكشف تباينات في قضايا البيئة والتنمية تصل إلى حدِّ التناقض. ولا يبرِّد من سخونة النقاشات إلا موقع المقرِّ الأوروبي للأمم المتحدة، المطلِّ على بحيرة ليمان الهادئة.
خبير يعمل مع منظمة مختصَّة بالتغيُّر المناخي يُصرُّ على أنه لا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة قبل التصدِّي لتحدِّيات المناخ. فيعارضه مستشار لمنظمة التجارة العالمية بأن الأولوية المطلقة يجب أن تكون للنموِّ الاقتصادي المدعوم بفتح أبواب التبادل التجاري الحر. ويتشعَّب النقاش في اتجاهات متباعدة، يتداخل فيها الفقر مع التربية والأمن الغذائي والغابات والصناعة. وفي حين ينتظر المتحاورون من ممثل إحدى الدول المنتجة للبترول الاعتراض على خفض سريع في انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، يأتي الاعتراض سريعاً من مندوبي الدول المنتجة للحوم الأبقار. ويفهم الحاضرون أن تربية الأبقار مسؤولة عن أكثر من 12 في المائة من الانبعاثات الضارَّة بالمناخ؛ خصوصاً غاز الميثان.
وإذ يحتدم النقاش، يُلهم هدوء بحيرة جنيف حلاً يأخذ الحقائق الموضوعية في الاعتبار. فكلُّ فريق يدافع في الواقع عن جزء من الحقيقة، والحلُّ قد يكون في اعتماد خطٍّ ثالث؛ لأن الموازنة بين قضايا البيئة والتنمية قضية محكومة بالتسويات.
صحيح أنه لا يمكن تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وعلى الأخص تلك المرتبطة بالفقر والجوع والصحة والمياه والطاقة النظيفة والحياة على الأرض وفي المحيطات، بمعزل عن مواجهة تغيُّر المناخ ووضع حدٍّ لنتائجه الكارثية، إلى جانب الاستعداد للتعامل مع الآثار التي لن يمكن وقفها.
فالتغيُّر المناخي يضرب الأمن الغذائي ليفاقم الجوع، كما يخفِّض كميات المياه العذبة المتاحة، بما يؤثر على استمرار الحياة بجميع أشكالها، ويهدِّد الصِّحة البشرية بانتشار مزيد من الأمراض والأوبئة، ويعرقل إمدادات الطاقة. هذه العوامل جميعاً تفاقم الفقر الذي يبقى التخلُّص منه، عبر تحقيق العدالة في الإنتاج والتوزيع، الهدف الأساسي والأسمى للتنمية المستدامة.
في المقابل، لا يمكن أن ننتظر من الفقراء الذين لا يملكون قوت يومهم، ولا يعلمون ما إذا كانوا قادرين على تأمين الحليب والماء لأطفالهم في صباح اليوم التالي، أن يتجاهلوا همومهم اليومية الملحَّة من أجل العمل لوقف التغيُّر المناخي؛ إذ كيف يخطِّط للمستقبل بشر يقفون بين الحياة والموت في كلِّ لحظة؟ وكيف يمكن مطالبة من لا يملك أي مصدر موثوق للطاقة، سواء كان للطهو أو التدفئة أو الإضاءة، أن يساهم في إنقاص الانبعاثات، من دون تقديم المساعدة في إيجاد بديل يضمن القضاء على فقر الطاقة؟ الحلُّ الواقعي هو في اعتماد خيارات تقضي على الفقر وتحقق أهداف التنمية، بالتوازي مع خفض الانبعاثات للحدِّ من التغيُّر المناخي، وتنفيذ إجراءات للتعامل مع آثاره. هذه كلها ليست خيارات سهلة، إذ تتطلب تبديلاً جذرياً في أنماط الاستهلاك، يرفضه كثيرون في البلدان الغنية، ويعتبرونه تضحية لا يمكنهم تحملها.
وعلى المطالبين بوضع قيود صارمة وسريعة على نشاطات تصدر عنها غازات مسببة للتغيُّر المناخي، مثل إنتاج لحوم الأبقار أو حرق البترول والغاز، أن يدركوا الآثار الكارثية على مجتمعات تشكِّل هذه الموارد مصدر رزقها الأساسي. ولا يقتصر الحلُّ على اعتماد خطط مرحلية للتحوُّل التدريجي عن طريق إيجاد البدائل وتنويع الاقتصاد؛ بل يشمل أيضاً تطوير وسائل إنتاج واستهلاك للحوم والوقود، تساهم في تخفيف الانبعاثات. لكن هذا يفرض على المنتجين أيضاً القبول بحتمية التغيير، وعدم تأخير برامج التحوُّل السلس إلى أنماط اقتصادية بديلة.
في غرفة أخرى من قصر الأمم، كان النقاش يدور حول دور القطاع المصرفي في تمويل برامج التنمية المستدامة، وإدخال المخاطر المناخية كجزء أساسي في عمليات تقييم المشروعات. الاتفاق على المبادئ العامة للتحوُّل إلى «الاقتصاد الأخضر» كان شاملاً؛ إذ لم يبقَ اليوم من يُنكر أن التنمية التي لا تحترم البيئة ومحدودية الموارد محكومة بالإخفاق. لكن الخلافات تبقى على وسائل التنفيذ، والحماسة الخطابية المفرطة لدى بعضهم للمفاخرة بإنجازات -ولو وهمية- تهدّد بتحويل «الاقتصاد الأخضر» إلى «غسل أخضر» يضاهي تبييض الأموال.
وقد لفت نظرنا حديث ممثل مؤسسة تمويل دولية عن برامج للتمويل الأخضر، اتفق عليها في السنوات الماضية مع المصرف المركزي وبعض المصارف التجارية في لبنان، تضمنت دعماً بمئات الملايين لمنح قروض ميسَّرة في مجالات، مثل الطاقة المتجددة والمياه وإدارة النفايات. وكان من الطبيعي أن ينبِّه أحد المشاركين المتحدِّث إلى أنَّ كلامه خارج الزمن، بعد التطورات التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة. ذلك أن «التمويل الأخضر» لا يمكن أن يغطي فشل أنظمة التمويل التقليدية، نتيجة سوء التخطيط والإدارة الفاسدة. فبينما منحت المؤسسات الدولية تسهيلات لتمويل مشروعات «خضراء»، كانت بعض المصارف التجارية المشارِكة تمنح قروضاً من فائض السيولة الوهمية لديها لجراحات التجميل وحُقَن «البوتوكس»، وفي أحسن الحالات كانت تُضارِب بالعملات. وكان الأجدى أن تشترط مؤسسات التمويل على المصارف توجيه قروضها التقليدية إلى مشروعات مُنتِجة، قبل الدخول في العمليات المصرفية «الخضراء»، كما كان عليها دعم بناء محطات وشبكات حديثة للكهرباء، قبل توفير دعم للسيارات الكهربائية. فلعلَّها لو فعلت هذا لكانت ساعدت في تجنيب النظام المصرفي والنقدي في لبنان هذا السقوط المريع الذي ابتلع الأموال الخضراء مع السوداء، إلى جانب تلك الحمراء المجبولة بدم الناس وجنى عمرهم.
وبينما كان المجتمعون في قصر الأمم يستمعون إلى رسالة مسجَّلة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يحثُّ فيها الدول على تسريع العمل الجدي لمواجهة تحديات التغيُّر المناخي لمنع كارثة محدقة بالبشرية، لاحظ أحد المندوبين أن الحضور الجسدي في القاعة لا يتجاوز العشرين، وهي تتسع لنحو 500 شخص، في حين يشارك الآخرون افتراضياً عن بعد. وقد كان صادماً هذا التناقض بين مضمون الرسالة الأممية ومشهد القاعة الكبيرة شبه الفارغة التي تعمل فيها أجهزة التهوية والتدفئة والتبريد والإضاءة بقدرة كاملة، مصدرة أطناناً من الانبعاثات الكربونية.
بينما يتابع المندوبون حديث المناخ والتنمية والطاقة النظيفة في قاعات قصر الأمم على بحيرة جنيف، يكاد يفوتهم أن قواعد اللعبة ستتبدَّل حين تنجلي عواصف «كورونا» وأوكرانيا.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»