المشاركون في «أسبوع المناخ للشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، الذي استضافته الرياض قبل أيام، لم يبحثوا ما إذا كان المناخ يتغيّر أم لا، بل ذهبوا مباشرةً إلى استنباط حلول عملية للتحدّي الذي لا مفرّ من مواجهته. وبدلاً من الاكتفاء بالاستماع والشكوى، حفل الاجتماع بالمبادرات الاستباقية، خصوصاً من الدولة المضيفة. فالسعودية، أكبر مصدّر للنفط في العالم، تقود اليوم نهجاً جديداً يضع النفط في خدمة العمل المناخي ورعاية البيئة.
لكن اجتماعات الرياض أظهرت أنّ تشخيص المشكلة هو البداية فقط؛ إذ إنّ أساس الخلاف يكمن في الاتفاق على تحديد المسؤوليات، والتمويل، والجدول الزمني للتنفيذ. وهذه لا تزال تشكّل عقبات شائكة، محورها الأساسي من يدفع الثمن، وفق قسمةٍ عادلة للمسؤوليات.
التعقيدات التي ترافق تحقيق الالتزام الدولي بالوصول إلى «صفر انبعاثات كربونية» في منتصف القرن، تجلّت في مناقشات البرلمان الأوروبي، قبل أيام من اجتماع الرياض. فبعد شهرين على ترشيح الحكومة الهولندية لوزير الخارجية والمال السابق، ووبكي هوكسترا، لتولي «مفوضية المناخ»، كان البرلمانيون الأوروبيون يواصلون استجوابه، للتأكد من التزامه بتنفيذ خطة العمل المناخية التي أقرّها الاتحاد. وللنجاح في الامتحان والحصول على الأصوات اللازمة، كان عليه إعطاء تعهدات محدّدة، من بينها تقليص مزارع الأبقار في هولندا، المصدر الرئيسي للميثان، أحد أقوى غازات الاحتباس الحراري.
فما التحدّيات المناخية العسيرة على الطاولة الأوروبية في بروكسل والطاولة العربية في الرياض؟ الدول الصناعية، ومنها أوروبا، تبحث عن أساليب عملية لتنفيذ تعهدها بالوصول إلى «صفر انبعاثات كربونية» سنة 2050، بينما هي مثخنة بالجراح من آثار وباء «كورونا» وحرب أوكرانيا. فهل يمكنها فعلاً خفض الانبعاثات وفق الجدول الزمني المحدَّد؟ ومن أين يأتي التمويل الإضافي للعمل المناخي من غير ضرب الخدمات الأخرى؟ وهل يستمر الناس في دعم السياسات المناخية إذا جاءت على حساب الاقتصاد والتقديمات الاجتماعية؟ وكيف تؤثّر الموجات الكاسحة من اللاجئين في قدرة أوروبا على تمويل العمل المناخي؟
في المقابل، تواجه الدول التي اجتمعت في الرياض تحدّيات مناخية مختلفة، في طليعتها الحصول على حقوقها العادلة والدعم الكافي للتحوُّل الطاقوي. لقد حققت الدول المتقدّمة مستويات عالية من النموّ خلال السنوات الـ150 الماضية، باستخدامها المفرط للوقود الأحفوري من فحم حجري ونفط وغاز؛ لذا فهي مسؤولة، تاريخياً، عن معظم الانبعاثات الكربونية المسببة لتغيُّر المناخ، وعليها أن تتحمل قدراً أكبر من الالتزامات لتخفيض الانبعاثات، مع مساعدة الدول النامية للتحوُّل إلى اقتصاد أخضر خالٍ من الكربون، وتمويل مواجهة الآثار الكارثية لتغيُّر المناخ، أي تدابير التكيُّف.
أما الدول العربية المنتجة للنفط، التي كانت بين المجتمعين في الرياض، فكلّها دول نامية تسعى لتطوير مجتمعاتها باستخدام دخلها من النفط، بينما تعمل على تنويع الاقتصاد. وليس جائزاً أن يُلقى عليها اللوم أو تُعاقَب لأنها تستمر في عرض إنتاجها من النفط والغاز تلبية لحاجة السوق، بينما لم تكن يوماً عائقاً أمام تطوير مصادر متجددة للطاقة بكميات كافية. على العكس من هذا، احتلّت بعض الدول النفطية العربية مواقع متقدّمة في برامج الطاقات النظيفة والمتجددة واستثماراتها، خصوصاً السعودية والإمارات. فهل المطلوب منها التوقف عن إنتاج النفط وتصديره، عِلماً بأنها كلّما خفّضت الإنتاج تُواجَه بتهمة الاحتكار؟ ومن المسؤول عن تقاعس الدول الصناعية لسنوات في التحوُّل السريع إلى الطاقات المتجددة؟
غير أن التأكيد على مسؤولية الدول الصناعية عن معظم الانبعاثات، تاريخياً، لا يعفي الدول الأخرى من واجباتها. ولا تجوز معاقبة الدول التي قادت الثورة الصناعية على حيوية شعوبها، وسعيها نحو التقدُّم والارتقاء؛ فما أنتجته الدول المتقدمة من عِلم وتكنولوجيا وفِكر أفاد البشرية جمعاء، لكن مسيرة النموّ التي اعتمدتها تجاوزت الحدود باستنزاف مفرط لموارد الطبيعة؛ لذا لا يجوز منع مليارات البشر في الدول النامية والاقتصادات الناشئة، من حق الوصول إلى الخدمات الأساسية والتقدُّم، تعويضاً عن تجاوزات سكان الدول الأخرى. وهذا يفرض على الدول الغنية وضع قيود على أنماط الاستهلاك المنفلتة، بما يكفل حقوقاً عادلة للآخرين.
في المقابل، لا يمكن السماح لدولة مثل الصين، قفزت إلى الصفوف الأولى للقوى الاقتصادية العظمى، وأصبحت المصدر الأكبر للانبعاثات الكربونية، بأن تستمر في الاختباء وراء الدول الفقيرة النامية، والمطالبة بمعاملتِها مثل الصومال والنيبال، بتمديد فترات السماح لتأجيل الالتزام بخفض الانبعاثات، كأنها تطالب بحقوقها في التلويث.
يُطالِب البعض الدول الصناعية بإطلاق برامج لـ«جمع الكربون» الذي تسببت بإطلاقه في الأجواء خلال قرن ونصف. وهذه تقنية غير مستخدمة عملياً بعد، ومكلفة جداً، مقارنة بالتقاط الكربون في مواقع انبعاثه من محطات حرق الوقود المركزية، لإعادة استخدامه في الصناعة أو تخزينه على نحو مأمون، وهي بدورها عملية مكلفة. لكن التصدي لتحدي التغيُّر المناخي يتطلّب إبقاء الأبواب مفتوحة لجميع الخيارات.
الخطير في الأمر هو أخذ النقاش إلى أماكن أخرى، كالقول إنه إذا نجحت الدول الصناعية في استرجاع جزء من كربونها «التاريخي» من الأجواء، يمكن عندئذٍ الاستمرار في حرق الوقود وإطلاق الانبعاثات. وهذا استنتاج بعيد عن الواقع والعِلم؛ لأنه حتى لو توصّلت التكنولوجيا في الوقت المطلوب إلى وسيلة عملية واقتصادية لجمع بعض الكربون من الأجواء وتخزينه بأمان، لا يمكن تبرير الاستمرار في بثّ الانبعاثات.
ففي هذه الحال نكون مثل مريض يطالب بالاستمرار في التدخين إذا نجح الطب في تنظيف رئتيه من السموم. وفي حين أكدت مناقشات الرياض الحاجة إلى فترة انتقالية كافية لإيجاد بدائل؛ إذ لا يمكن وقف الانبعاثات الكربونية الناجمة عن حرق الوقود الأحفوري غداً، أظهرت في المقابل أن التخطيط على أساس أنها باقية إلى الأبد، هو بمثابة انتحار.
يكتسب اجتماع الرياض قوّته من أن دولاً عربية فاعلة أصبحت اليوم في صلب صناعة القرار المناخي، حين بادرت إلى تنويع اقتصاداتها وإطلاق برامج رائدة، محلياً وإقليمياً ودولياً. ومن الأمثلة أن اقتصاد الإمارات - وهي بين أكبر المستثمرين في الطاقات المتجددة في العالم - يعتمد اليوم بنسبة 71 في المائة على مصادر غير نفطية. والسعودية أدخلت الاقتصاد الأخضر عنصراً متكاملاً في «رؤية 2030»، كما في مبادرة التشجير الكبرى داخل المملكة وعبر الشرق الأوسط، لجمع الكربون من الهواء ومعالجته طبيعياً بالتمثيل الضوئي، كما أطلقت مشاريع لإنتاج الطاقة المتجددة والهيدروجين والتقاط الكربون، ومصنعاً ضخماً لصناعة السيارات الكهربائية.
تحقيق العدالة المناخية ليس بالأمر السهل، في عالم تحكمه المصالح السياسية والاقتصادية. لكن اجتماعات الرياض وضعت الأساس الصحيح للذهاب إلى المفاوضات الدولية في «دبي» بموقف قوي، بوصفها مجموعة تدرك واجباتها، كما تعرف حقوقها وتدافع عنها.