توقيت القاهرة المحلي 22:45:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بيئة المتوسط مقبرة المهاجرين

  مصر اليوم -

بيئة المتوسط مقبرة المهاجرين

بقلم - نجيب صعب

في الوقت الذي كانت المفوّضية المتوسطية للتنمية المستدامة تعقد فيه اجتماعها الدوري العشرين في مرسيليا، على ساحل فرنسا الجنوبي، وقعت مقابل الشواطئ اليونانية أفظع كارثة إنسانية عرفتها المنطقة؛ فقد ابتلع البحر مئات المهاجرين، رجالاً ونساءً وأطفالاً، عندما غرق مركب تجارة البشر الذي كان ينقلهم من ضفة إلى أخرى، هرباً من شظف العيش والقمع، وبحثاً عن مستقبل أفضل.

لم تكن أخبار الكارثة قد وصلت إلى مرسيليا، حين تحدثتُ صباح افتتاح الاجتماع عن معضلتين، لا يمكن البحث في بيئة حوض المتوسط ومستقبل التنمية في بلدانه بمعزل عنهما: السيل الجارف من المهاجرين من ضفة المتوسط الأفقر إلى ضفته الأغنى، ومضاعفات الحرب الروسية في أوكرانيا؛ فانفلات الهجرة من أية قيود سيرفع أعداد اللاجئين إلى الغرب من مئات الآلاف إلى عشرات الملايين، بما يهدد بلدانهم الأصلية بفقدان ثروة بشرية هائلة، خصوصاً في المناطق الريفية التي سيصيبها الإهمال، كما يهدّد الدول على الضفة الأخرى بسيل عشوائي جارف من الوافدين، بما لهذا من أثر مدمّر على البيئة والاقتصاد والتركيبة الاجتماعية والثقافية. أما الحرب الروسية في أوكرانيا، فقد تخرج عن السيطرة وتتحوّل إلى مواجهة حربية مفتوحة تستقطب دولاً أخرى، ولن تستطيع دول المتوسط على ضفتيه تجنُّب آثارها القاتلة على جميع مناحي الحياة والاقتصاد والبيئة، فكيف يمكن الحديث عن حماية البيئة في غياب الاستعداد الجدي لمواجهة مصائب كبرى كهذه؟

ليس السعي لحماية بيئة المتوسط البحرية والساحلية بجديد؛ فخطة العمل للبحر المتوسط، التي أقرّتها حكومات المنطقة عام 1975، كانت أول برامج البحار الإقليمية التي أطلقها برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب) قبل نصف قرن. وقد تنبّه القائمون على تنفيذ الخطة باكراً إلى أنّ تنمية المجتمعات المحلية شرط لحماية البيئة، فضمّنوا برامجهم مبادرات لرفع المستويين الاقتصادي والاجتماعي للسكان، وتعزيز التعاون بين دول المنطقة؛ فهي بين الأكثر حساسية في العالم، بنظمها الطبيعية البرية والمائية المهددة، تلوُّثاً وانقراضاً. وهي من أكثر المناطق عرضةً لآثار التغيُّر المناخي، من ارتفاع قياسي في درجات الحرارة يفوق المعدل العالمي وتفاقم مشكلات الجفاف ونضوب الموارد المائية، لكن الميزانيات المخصّصة للإنقاذ بقيت ضئيلة مقارنة بحجم التحديات.

وقد دخل البُعد التنموي بقوة في صلب خطة المتوسط حين أقرّت الدول الأعضاء عام 2016 «الاستراتيجية المتوسطية حول التنمية المستدامة»، وهي ترجمة أهداف التنمية المستدامة العالمية إلى جدول أعمال خاص بدول البحر المتوسط. وتهدف الخطة إلى إقامة منطقة متوسطية مزدهرة يعمّها السلام والأمن، ويتمتع سكانها بنوعية حياة عالية الجودة، وتتحقق أهداف التنمية فيها من دون تجاوز قدرة الأنظمة الطبيعية على الاحتمال. وهذا يعني الاستثمار في الاستدامة البيئية لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية. والأكيد أن توسُّع عمليات استخراج النفط والغاز في السنوات المقبلة يحتِّم التشدد في تطبيق المعايير الكفيلة بخفض الآثار البيئية السلبية على البحر المتوسط وحوضه إلى الحد الأدنى.

أما الغايات الأساسية التي تضمنتها الاستراتيجية المتوسطية فتقوم على تحقيق التنمية المستدامة في المناطق البحرية والساحلية، وتشجيع الإدارة المتوازنة للموارد، وتعزيز الأمن الغذائي بدعم قدرات المجتمعات المحلية، وتخطيط المدن المتوسطية وإدارتها على نحو مستدام. ومن غاياتها أيضاً التعاطي مع التغيُّر المناخي كأولوية، والانتقال إلى أنماط بديلة تعتمد مبادئ الاقتصاد الأخضر الذي يحقق النموّ مع احترام الطاقة الاستيعابية للطبيعة. وقد عُهِد إلى المفوضية المتوسطية للتنمية المستدامة بتطوير هذه الاستراتيجية والإشراف على تنفيذها، وهي تضم ممثّلين عن حكومات الدول المتوسطية الـ22، مع 18 ممثلاً عن المنظمات الأهلية والعلمية والأكاديمية والبرلمانية.

ومن أهمّ المبادرات التي أطلقتها المفوضية المتوسطية صندوق للمناطق البحرية المحمية، وإدارة النفايات براً وبحراً على نحو سليم مع مكافحة التلوُّث عامة، وتنظيم الصيد، وإقرار لائحة بالمعايير لتنظيم المدن المتوسطية، وبناء القدرات وتدريب الاختصاصيين على تنفيذ مندرجات الاتفاقيات، وتعميم التربية البيئية، ووضع أسس دقيقة موحّدة بالمؤشرات اللازمة لمراقبة مراحل تنفيذ الاستراتيجية، مع إتاحة المعلومات للجمهور.

بيّنت التقارير التي عُرضت في اجتماعات مرسيليا أنّ خطة العمل للمتوسط والبرامج التنفيذية التابعة لها، والمفوضية المتوسطية للتنمية المستدامة، حققت الكثير من أهدافها، ضمن الإمكانات المتاحة، لكن التحدّيات الكبرى التي تواجهها المنطقة تستدعي مضاعفة الجهود وضمان مشاركة أكثر فاعلية من جميع الدول الأعضاء وتسريع التنفيذ. والبداية من تحويل التوصيات إلى قوانين تُقرّها السلطات التشريعية في بلدان المنطقة، وتُحوِّلها السلطات التنفيذية إلى برامج عمل، بحيث يُقاس النجاح بالنتائج التطبيقية وليس بعدد التوصيات.

تبقى موجات الهجرة هرباً من انسداد سبل العيش بكرامة وحرية، غالباً بسبب أنظمة قمعية استبدادية، من أبرز التحديات التي تواجه تنفيذ خطط تنمية قابلة للاستمرار في دول حوض المتوسط. والحلّ الجذري يكون في خلق الظروف الملائمة التي تشجّع الناس على البقاء في بلدانهم، بتعزيز التنمية المحلية وتطوير الاقتصاد لخلق فرص عمل، وفوق كل هذا ربط المساعدات بإصلاحات سياسية ووقف الهدر والفساد واحترام حقوق الإنسان، بما يمكّن السكان من العيش بكرامة وحرّية في أوطانهم بدلاً من البحث عن سبل العيش الكريم والحياة الحرّة على الضفة المقابلة؛ فتقليص الفجوة الاجتماعية والاقتصادية بين ضفتي المتوسط، مهما كانت كلفته، وإصلاح الأنظمة، يبقيان الطريق الوحيدة إلى تحقيق الأمن والاستقرار، على قاعدة متينة من الازدهار الذي تصل فوائده إلى الجميع، لكن ستبقى كل محاولة لمعالجة مشكلات الهجرة منقوصة إذا اقتصرت على تقديم المساعدات المعيشية، إذ إن القمع وانعدام الحرية هما الأساس، ما يستدعي مضاعفة الضغط على الأنظمة القمعية الفاسدة بدلاً من التعايش معها.

لا يمكن البحث الجدّي في رعاية البيئة، أكانت برّية أو بحريّة أو جوية، بوجود هذه الأعداد الضخمة من الجياع وفاقدي الحرية، الذين تقلّص طموحهم إلى محاولة الهرب ولو على قوارب الموت. فلتساعد الدول والمنظمات طالبي الهجرة داخل بلدانهم، ولتتوقف عن دعم أنظمة فاسدة تأخذ شعوبها رهائن، وتدفع بها إلى الهرب بحثاً عن فسحة أمل.

* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بيئة المتوسط مقبرة المهاجرين بيئة المتوسط مقبرة المهاجرين



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon